عبد اللطيف الوراري
ودّع المغرب التشكيلي في مطلع الأسبوع الجاري التشكيلي محمد حميدي عن عمر يناهز 84 عامًا، وهو أحد الأساتذة الرواد الذين أرسوا حداثة الفن المعاصر بالمغرب، ممن ارتبط اسمهم بتاريخ هذا الفن وتقليعاته الجديدة في كل مراحله الأساسية منذ الاستقلال.
فنّ معاصر
يُعدّ الراحل (1941- 2025) من أوائل التشكيليّين الذين التحقوا، في مرحلة ما بعد الاستعمار، بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، قبل أن ينتقل إلى باريس ويكمل تكوينه الفني حتى حصوله من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، عام 1964، على دبلوم تدريس فن الجداريات. وحين رجع إلى المغرب، انخرط بعلمه وموهبته في النشاط التشكيلي الحداثي إلى جانب مُجايليه؛ من أمثال فريد بلكاهية ومحمد شبعة ومحمد المليحي وغيرهم.
جماعة بيان جامع الفنا- مراكش (1969)، من اليمين إلى اليسار: المليحي، شبعة، حميدي، حافظ، مصطفى، بلكاهية، أطاع الله.
وقد مثّل البيان الذي أطلقوه من قلب ساحة جامع الفنا- مراكش لكونها « مسرحًا للحلقات والمهرجانات والاستعراضات الشعبية »، ودعوه بـ »الحضور التشكيلي » عام 1969، تاريخًا حاسمًا في مسار الحداثة المغربية، تلاه لاحقًا ثلاثة بيانات أخرى حتى سنة 1978، على نحو ما شكّل في مجموعها صورة الالتزام الفني لدى هؤلاء التشكيليين المُجدّدين تجاه تراثهم وثقافتهم المحلية، بكل ما ينطوي عليه هذا الالتزام من أبعاد سياسية واجتماعية. وفي سبيل هذه الحداثة التي لا تنسى خصوصيّتها، تجاوبوا مع المشروع الفكري والجمالي الذي حملته مجلة أنفاس (Souffles)اليسارية وكان يديرها عبد اللطيف اللعبي، بحيث سعوا إلى إرساء حداثة فنية مغربية الجذور تستمد روحها من الفنون الشعبية والتراث المحلي (الزرابي الأمازيغية، الوشم، الحناء، الزليج، الخط العربي..). يقول الشاعر والتشكيلي الراحل محمد القاسمي: « ابتداءً من سنة 1965 وجدت مجموعة من الرسامين أنفسهم على رأس مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، وهم: بلكاهية، شبعة، أطاع الله وحميدي وسواهم. وقد وضعت هذه الجماعة موضع مساءلة التراث الكولونيالي للمدرسة، بحيث قامت ببحوث حول الفنون التقليدية وحاولت إقامة وشيجة بين علامات الماضي ورموز الحاضر لبلوغ عتبة الأصالة ».
تعبيرية الجسد
في مدرسة الدار البيضاء (1967-1975) حيث نبغ عمله بشكل بارز، جسد قناعاته الجمالية ضمن طليعة المؤسسين للفن الحديث المغربي الذي كان يتحرر من قوالب النظرة الاستعمارية أو الاستشراقية المتبعة، ويقترح جمالية بصرية جديدة تستلهم موادّها وأشكالها المائزة من ذخيرة الأسلاف. فهو استلهم من الفنون التقليدية، لكنه لم يكتفِ بإعادة إنتاجها، بل حوّلها إلى أسلوب خاص به يعكس انتماءه للجذور ويعمل على تكييفه عبر محاورة تيارات الفن الحديث. كان هذا الأسلوب/ الأثر الذي بؤرخ تجربته ويطبعها بإمضائه الشخصي، يمزج بين رمزية العلامة وتعبيرية الجسد، بقدر ما كان يسعى إلى ابتكار لغة بصرية مختلفة يمليها عليها هذا الأسلوب الذي تموج فيها الحركات الرمزية الانسيابية من كلّ فج عميق، ومن خلالها يقارب ثيمات الجسد والأنوثة من منظور تحرري يخرق الممنوع والمجمع عليه في وسط ثقافة محافظة. بل إنّ حميدي كان يرتفع بتصوّره للفن التشكيلي إلى كونه فعلاً اجتماعيًا يجب أن يخرج من ردهات المتاحف
والصالات المغلقة إلى الفضاء العام المفتوح، ويتقاسم ثماره مع الجمهور داخل الحياة اليومية، كنوع من دمقرطة الفنّ بديلًا عن احتكاره من طرف نخبة أو فئة ضيقة. وقد تشّبع الفنان بهذا الوعي من أيام إقامته الباريسية في ورشة الفنان الجداري جان أوجام Jean Aujame، حيث تعلم كيف يفكر في بناء الصورة داخل الفضاء باعتباره حركة عامة ذات أبعاد فلسفية وجماعية.
طوال مسيرته التي تمتد لعقودٍ ستّةٍ، عرض محمد حميدي أعماله الفنية في معارض فردية وجماعية داخل المغرب وخارجه (فرنسا، ألمانيا، إسبانيا، مصر، الجزائر، تونس، العراق، الإمارات، سوريا..) التي كانت تتميّز بتدرجها الواعي من التصوير الواقعي إلى التجريد العضوي؛ حيث تتقاطع في لوحاته الخطوط الانسيابية والحركات التعبيرية والرموز المتكررة، في بحث دائم عن ذلك التوازن الخاص والمحلوم به بين العاطفة والذاكرة والبعد الإنساني الشامل. فالخطاب الصباغي عنده – كما يرى إبراهيم الحيسن- ينطوي على « قيم جمالية مماثلة تعكس اعتماده الأشكال الهندسية والرموز المبسطة والكتل اللونية الاصطلاحية بكيفية متراكبة داخل فضاء اللوحة »، ومن خلالها يمكن استشفاف علامات ورموز مستعارة من رحم الثقافة الشعبية المغربية (العين، الكف، الرموز الجنسية..)، قبل أن يجنح إلى تجريدية تلوينية قائمة على تبسيط الأشكال وتسطيح الكتل وتنويع الآثار الملونة على نحو توحي امتزاجاتها الطبقية في فضاء القماشة/ السند بأسلوب أركيولوجي تتعاقب عليه أزمنة الاشتغال لَوْنًا في إثر لون.
وقد توّج الفنان الراحل هذه المسيرة التي جعلت من المغامرة الفنية ممكنة، وكانت على الدوام محط اهتمام النقاد (طوني مارايني، ميشيل غوتيي، برام فان فيلد، حسان بورقية، موليم العروسي، إبراهيم الحيسن، فريد الزاهي..)، بتكريم واعتراف دولي من طرف متاحف في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا، وفي 2019 اقتنى مركز بومبيدو في باريس اثنتين من لوحاته تعودان إلى سنتي 1971 و1972، وهما جزء من التجربة الجمالية التي خاضها باقتدار في مدرسة الدار البيضاء للفنون الجميلة.
من المعلوم أنّ هذه المدرسة تأثرت منذ تأسيسها سنة 1952 بالمنهاج التعليمي الفرنسي (التجريد، حرية الانتشار الخطي واللوني..)، وبعد عقدٍ أُنيطت مهمة الإشراف عليها للفنان فريد بلكاهية الذي قادها بمعية رفاقه (محمد شبعة، محمد حميدي، جيلالي الغرباوي، أحمد الشرقاوي، مليكة أكَزناي، إلخ) إلى مرحلة جديدة عنوانها الأبرز تأصيل الممارسة الفنية المغربية عبر ربطها بجذورها وروافدها الشعبية والأمازيغية والعربية الإسلامية والإفريقية، مستفيدين من المعطيات الديناميكية للفن المعاصر. وهكذا اعتمدت المدرسة على أرضية بيداغوجية تعزز خطاب العودة إلى الذات والتراث، من خلال الاحتفاء بنماذج متأصلة في الثقافة المغربية كالخشب المزوق والحلي والإبداعات اليدوية الشعبية ذات الوظائف النفعية والجمالية. وأدخلت مواد الصناعات والحرف الشعبية الوطنية – كما يقول محمد المليحي- لدراستها كفن وتصميم.
لا تعليق