صحوة جمالية
بدت الحداثة في التشكيل المغربي مرتبطة بظهور نخبة من المبدعين تلقّتْ تكوينا فنّيا في المدارس الأوروبية، وإليها يعود الفضل في إرساء دعائم الفن الحديث في المغرب، وفي طليعتهم الجيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي اللذان أَوْليا اهتماما بالآثار التصويرية والأشكال النموذجية للرسم الحديث، وجعلا من تجربتيهما أولى التجارب الرائدة التي تأثرت بالفن التجريدي واستوعبته جماليّا، حريصين على القطع مع الوعي الفني الكولونيالي. وبعدهما بزغت أجيال جديدة من الرسامين في إطار الهواية، أو في إطار الممارسة الاحترافية المدعمة بالخبرة المدرسية، وقد تباينت أساليبهم في التصوير الواقعي والتعبير التشخيصي تبايُنا يعكس تنوُّع مقارباتهم لموضوعات كثيرة ومختلفة، اجتماعية وتراثية أمازيغية وعربية إسلامية، تتأسس على المحاكاة والتمثيل. ثم ظهرت صيغ تعبيرية أخرى جديدة تستلهم روحيّتها من الفن الغرائبي، بل انفتحت على خرائط التجريد المتراحبة حيث يُركِّز الرسامون الجدد في رسوماتهم على المادة واللون بقدر ما يولون اهتمامهم بالبصمة والأثر والحركة والجسد ويخلقون التواشجات الممكنة بين الجسد واللون، وفي طليعتهم: عزيز أزغاي، وفيصل احميشان، وحافظ مربو، وعبد العزيز أصالح، وبنيونس عميروش، ورشيد بكار وسواهم.

تجريد إيقاعي
إذا ركّزنا على تجربة فيصل احميشان الذي ينتمي إلى الجيل الجديد من التشكيليين المغاربة، ويعتكف على تطوير حاسته الفنية من داخل مرسمه الذي أصبح جزءاً من برنامجه اليومي، فهو يواصل الحفر في ثنايا المادة واللون جاعلاً منهما حقله الإبداعي البصري الموسوم بدينامية راكضة تمتد لجسده وفكره في آن. في هذه التجربة الصباغية، تتواشج الألوان واللمسات اللونية العريضة وتنبجس مكسوة بتخطيطات منثالة وتواقيع غرافيكية سريعة التنفيذ تعبِّر عن نوع من اللطخية المفتوحة على التضاد والتباين في اللون والمساحة والكتلة.
ضمن « الفوضى الخلاَّقة » كما يسميها الناقد إبراهيم الحَيْسن، تنفتح على اللوحات فضاءات جمالية حرَّة لامحدودة تستوعب اندفاع الفنان وتعكس الكثير من انفعالاته أثناء البحث والاشتغال مع ما يرافق ذلك من نشوة وعذابات وخيلاء.. ففي عمق مرسمه تنبثق أعمال صباغية مطبوعة بتجريدية صدَّاحة قائمة على الحركة والتشكيل الفعلاني، وتتبدى مجموعة من الألوان الترابية والبنية التي يخترقها، بين تجربة وأخرى، بياض نوراني وأصفر ساجٍ وأحمر ناري وأزرق ناصع يعلن عن صوفيته.. أضف إلى ذلك ظهور خطوط متشابكة في شكل إمضاءات خطية ولونية ضاربة نحو اتجاهات مدوَّرة تعبّر عن المطلق واللانهائي وتنسجم مع فكرة مفادها أن « الفن لم يعد له تعريف أبدي ولا زمني »، وفق تعبير تيودور أدورنو.
يصحُّ القول إن التجربة الصباغية للفنان احميشان تندرج ضمن تجريد إيقاعي يقوم بالأساس على التبصيم وإغناء السند بآثار صباغية متدفقة وخدوشات لونية إكسائية متحرِّكة، دورانية ولولبية تغدو اللوحة على إثرها فضاء يحتمل ضربات فرشاة غليظة وعريضة، مسلوخة من نعومتها، متباينة على إيقاع تعدُّد الأصباغ والمواد التلوينية ذات الطبيعة السائلة والذائبة. وبقدر ما هي بصمات متحرِّكة، هي أيضاً حصيلة فعل إرادي يروم معرفة وإدراك تحوُّلات المادة وتبدلاتها البصرية فوق سند الاشتغال. هي بلا شك بلاغة التشكيل الذي يهب المادة حركية ونصاعة وتناسل اللون الواحد المنسدل على ألوان أخرى اصطلاحية متواترة ضمن إيقاع بصري موازٍ للضوء وللألوان المتعاقبة.
بالنظر إلى اللوحات الصباغية التي يبدعها هذا الفنان، تتضح رغبته في إثبات ذاته بمقدار انخراطه في تجريد حركي تجسده تلك الخطوط السريعة والأشكال التبقيعية التي تحمل هوية صباغية تستمد ملامحها الرئيسة من التجريدية الجديدة، بل ستدفعه إلى تفحص بناءاتها وإنشاءاتها الغرافيكية المؤسسة على تضاد شكلي ولوني (ضوئي) مفعم بالعديد من المعاني والسرائر الكثيرة.. وعلى هذا المنوال يسعى الفنان فيصل احميشان إلى خلق حالات متنوِّعة من التشكيل الصباغي ذي المنحى الحركي الذي تنصهر فيه الاستعارات والمجازات المرئية لفائدة أطياف وتلافيف لونية تظل مندمجة في جسد اللوحة. وعلى هذا المستوى الغرافيكي/ الخطي، تشرع العين في تلقى وفرة من الخطوط والأشكال الحدسية الملونة والمصاغة على قواعد تلوينية متشابكة يتطلب استيعابها والنفاذ إلى معانيها أكثر من قراءة، على اعتبار أن المرء لا يستطيع بلوغ جوهر الأشياء إلا بعد توتر وتفاعل شديدين.
فالفنان إذن، يرسم هذه الحالات بواسطة خطوط شبكية ورشمات متصالبة الشكل والتركيب، وأخرى محيطية تتبادل المواقع وتتخذ المساحات والكتل الموجودة بينها معان مادية وروحية قوية الارتباط والتلازم.

تصريف الطاقة
وفي تأويل آخر، تنبثق أهمية تجربة فيصل احميشان التصويرية من البعد الطاقي الذي تتمتّع به أعماله سواء كانت كبيرة أو صغيرة الحجم والمقاسات، بحسب رأي الناقد التشكيلي فاتح بن عامر. فهذه الأعمال – في نظره- ذات صبغة اختزاليّة تنضبط إلى سلطة التنفيذ السريع ذي الطابع الانفعالي التفاعلي الذي يخترق قوة الفعل إلى قوة الحضور والتّمرئي. وهو يقصد بذلك أنّ معالم العوالم المختزلة التي يشكّلها فيصل احميشان من خلال أدائه، تستدعي الناظر إليها لتأمُّلها والإقامة في محراب سلطتها النافذة ببساطتها وحيويّتها المتفجّرة عبر الضوء المتحوّل إلى نور.
في هذه الأعمال التصويرية، يقترح فيصل احميشان أن يقيم على ناصية المساحة ويدلّي الجسد نحو رغبته كما تتدلّى العناقيد إلى مصيرها العذب بفعل الامتلاء والجاذبيّة. إنّه يحملنا إلى متع أخرى، غير تلك التي نرغب في الاستجابة إليها بشكل آلي وطبيعي، متع تتناسل من رحم اللمسة السريعة والحركة المركّزة والتوجيه الدقيق للعين بمثل توجيه الجسد واليد. يستدرجنا الفنّان إلى مناطق قصيّة من اقتناص التباينات في الإضاءة واللون والملامس، بخبرات تشكيليّة ترشح فيها المعرفة بالأداء مع الرهافة في الإحساس والقدرة على التركيز والتأمل. ليست التقنية أو الأداء المهمّان الوحيدان في عملية كهذه، بل المهمّ فيها هو رسم المسار الذي يسحب العين إلى موقع ما في اللوحة سرعان ما يغيب ليتجدد مركز الإبصار مع فعل التأمّل والتّثبّت. هي تجريدات تغلب عليها الإقامة في الرّمادي والأبيض المتحلل من كلّ انتماء لوني، لكن يطعّمها الفنّان بسيطرة لونيّة أو بحبكة ملمسيّة تجعل من الأبيض والأسود وما بينهما من رماديّات تنتصب كمراكز ضوء محايدة تتفاعل تخفيتا أو تقوية للمشعّ من الألوان المستعملة على المسطّحات. تجريدات تأخذ صيغة التنويع على ذات المبحث التشكيلي الّذي استأثر باهتمامات الفنّان.
التنويع في ممارسة فيصل حميشان التصويرية سمة بارزة، جعلت من هذه الأعمال تتلاقى في وحدة شكليّة وأدائيّة متميّزة. وحريّ بنا أن نرصد في هذه الأعمال هذا البعد من الوحدة الموسومة بالتنويع والمؤلّفة عبر الاختلافات البسيطة النافذة. ليست الممارسة ذاتها في كل مرة ومع كل عمل تشكيلي وليست اللّحظة ذاتها، إنّما اللحظات المتتاليات هي التي تعطي للتّزمين قيمته وللتّجربة ترسّخها في إتيان نفس الدّيمومة على نحو ما يرد من قول هيرقليطس: « لا يستحم المرء منّا في النهر مرّتين ».
يتجدد الجهد وتنبثق الطاقة ويخرج الشّكل من رحم العدم كخروج الضوء من عباءة الظلمة لتتكوّن اللوحة ملمحا تصويريّا متجددا كتجدّد مياه النهر، تقول بالاسترسال في الزمان والمكان وبالمقاومة اللّينة والعنيدة للإهمال والنسيان. نسيان ما فتئ فيصل حميشان يجرّه إلى السطح ليأتي الفعل بنفس المواصفات، ولكن بتركيز مختلف وباستعدادات متغيّرة حسب المزاج. لذلك تتميّز هذه التجربة الفنية بممارستها للإبداع من بؤرة النسيان المبني على كثافة الاستحضار، كما تتألّق اللوحات من خلال هذه الاختيارات الموجهة إلى الصغير من الأشياء الظاهرة ومن المقتطعات البصرية/ الصُّوَرية التي تقيم في اللوحة إبان مباشرتها لتخلق من الميكروكوزم صيغة الماكروكوزم، ليس للدلالة على الانتباه إلى الأشياء المهملة من علامات وأشكال وألوان، بقدر ما هي مراودة للعالم الماثل بين أيدينا كي ينبعث على صيغ أخرى قد تتشابه لكنّها في اختلاف.
هي عوالم إذن، مربكة بهدوئها وسكينتها وحالمة بشاعريّتها وانسيابها ومدهشة، لأنّها معلومة ومتروكة، أو هي مستمدّة من ذواتنا المفرطة في السرعة… أرادها فيصل حميشان أن تكون شواهد على توقيف الأزمنة الهاربة وتسجيلا للحظات الوعي بضرورة الفعل التشكيلي بديلا عن الخمول والكسل، وهو ببني من خلال الغرافيك والتصوير حلمه الهادئ الذي يستدعينا للإقامة في لحظاته الممكنة. إنّه يضبط الطاقة ويصرفها على إنشاء المعنى من اللون والشكل والخربشة..

عبد اللطيف الوراريAuthor posts

Avatar for عبد اللطيف الوراري

هذا موقع شخصي للشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الواري، يتيح للقارئ العربي التعرّفَ على ملامح تجربته في الكتابة شعرًا ونقدًا، وما يسبطه من آراء متنوعة ومختلفة في قضايا أدبية ونقدية برؤية منهجية ولغة تمزج بين العمق والوضوح.

لا تعليق

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *