يقدم الفنان والناقد التشكيلي المغربي إبراهيم الحَيْسن معرضه الجديد، المنظم من طرف مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين، تحت عنوان: «للصحراء أثر»، في المركز الثقافي إكليل في طنجة، طيلة أيام 16 أيار/ مايو- 05 حزيران/ يونيو 2025. ويأتي عنوان المعرض امتدادا لعناوين معارض فنية فردية سابقة اشتغل فيها على مفهوم الأثر Trace بمعناه الثقافي والجمالي البصري؛ منها: «انعكاس الأثر» (العيون وبوجدور وطرفاية، 1999)، «مغلفات تشكيلية» (الدار البيضاء، 2003)، «آثار مترحلة» (أكَادير، 2017 والرباط، 2019)، «كارتوغرافيا المحو» (الرباط 2018) و»مديح الأثر» (الصويرة، 2020). لذلك، فإن هذه التجربة الصباغية التي يخوضها الفنان التشكيلي، لا تشذ عن تقليد جمالي وبصري راسخ يراهن من خلاله على الأثر بلوحات صباغية ومجسمات فنية متماهية مع فضاء الصحراء ومفازاتها وأمدائها. في حضوره بقدر غيابه، يقيم الأثر «ترسبات وطرز لونية تمنح اللوحة أبعاداً بصرية متحولة»، على نحو يغدو معه هذا الأثر ذاكرة متجددة تعبر عن «الرغبة في تحطيم الديمومة»، وتعكس «تشكيلاً لامرئياً يتجه نحو العبور»، باعتباره خاصية جمالية تنزع نحو المؤقت والمنفلت والحاضر العابر باستمرار، على إيقاع ثنائية الترحال والاستقرار.

تعبيرية الأثر ووظائفه

في هذا المنظور، يربط الفنان التشكيلي الصحراءَ كفضاء وتجربة، بالحرية والمطلق واللامتناهي وبالبداوة والطهر والنقاوة، ولا تعني الفراغ واللاوجود؛ فهي ذاكرة منفتحة على تاريخ عريق يختزل أشكالاً متنوعة من القيم والخبرات الإنسانية الموغلة في القدم، التي يعبرها الإنسان الصحراوي في رحلته الأبدية وسط هبوب الرياح التي تُنظفه على الدوام. من حبة الرمل إلى الكثبان الرملية الزاحفة، تحيا الصحراء في ترحال دائم بفعل حركات الريح ومشيئتها. ومن خلال هذه الخلفية البيئية، تبرز الكثبان في لوحات إبراهيم الحَيْسن على شكل تكوينات وحجوم رملية مرئية متآلفة تتلاعب على سطوحها الظلال والأضواء بأهم مستوياتها الطيفية، ومتوترة بين لون الرمال الذهبي وزرقة السماء المتبدلة على إيقاع التقلبات المناخية، فضلاً عن أشعة الشمس الساطعة التي ترسم تشتيت الألوان وانتشارها على امتداد بصري واسع، يخلق الدهشة و»اللذة البصرية» داخل وعبر تعرجات الرمال وأنثوية أجسادها وإيماءاتها الدائبة والمُشْرعة على المطلق واللامحدود واللامرئي، بشكل تجريدي متراحب يحاور العين ويسائل الفكر في آن.

من هنا، يجري استثمار فكرة الأثر بصرياً للتعبير عن جماليّات الترحال داخل ثنائية الظهور والاختفاء. يقول إبراهيم الحيسن: «الأثر متصل بالحواس، ويصعب فصله عنها والعكس صحيح، لاسيما حاسة البصر عندما يكون هذا الأثر مرئياً، وموضوعاً للرؤية والنظر والمشاهدة، إذ يمتلك الأثر سرائر عديدة تشتغل داخل العمل الفني كذاكرة وكهوية بصرية جمالية لها حيزها الثقافي والتاريخي الخاص. وبقدر ما هو أثر، هو كذلك علامة أيقونية ودال لمدلول (ما) يمتد لإيماءات الجسد وانفعالاته». وتتجلى هذه الفكرة في اختيار الخامات والألوان المستخدمة على نحو خاص ومُفكر فيه؛ فالأثر يتم تجسيده من خلال تجريب العديد من الخامات والمواد التلوينية التي تعمل على تشخيصه متعدداً وممتداً ومفتوحاً على التنويع: خفيفة وسميكة (أحبار ومساحيق وأصباغ تقليدية)، ومواد تلوينية محلية (مادة النيلة، مسحوق الجوز والحناء…)، وسنائد قماشية وورقية وخشبية ملائمة، تتوزع بين قماش الرسم الجاهز، والقماش الخام الذي يصنع منه اللباس النسائي المحلي، وورق «الكرافت» بجهتيه الناعمة والخشنة، والمعروف بـ»ورق الصر والتحزيم»- حيث يتميز أثناء دمجه في جسد اللوحة، بامتصاص المواد التلوينية وتدفقها في الوقت نفسه، ثم الخشب الرقيق المسطح والمجسم عبر تطويعهما فنيا. ويظل اللون الأزرق في علاقته بموضوع الصحراء، وبطباع وعادات ساكنتها من أهل البيضان وثقافتهم الحسانية، هو الأكثر حضورا في فضاء اللوحات. يفسر الفنان الأمر بقوله: «يعود هذا الاستعمال اللوني إلى ولع إنسان الصحراء باللون الأزرق، إذ نجده حاضراً في لباسه التقليدي، لاسيما الدراعة الرجالية الموشاة بتطريزات بديعة إلى جانب القمصان واللثم والسراويل، وكذلك الملحفة النسائية بألوانها الزاهية، فضلاً عن «أَسَوْدَارْ»، وهو شريط القماش الطويل الذي يُزَخْرِفُ الديكور الداخلي للخيمة.. وغير ذلك من المكونات الثقافية والتراثية التي يتخذ فيها اللون الأزرق دلالات رمزية وجمالية متعددة، منها الرفعة والسمو والتعالي».
داخل تعبيرية الأثر ونزوعه الأركيولوجي، تكون من جملة الوظائف الأساسية التي تعكسها التجربة الصباغية، هي حفظ الذاكرة وصونها من أتون المحو والتفتت والاندثار، والاحتفاء الرمزي بالجسد قياساً إلى سمو اللون الأزرق وعلاقته بالحياة والأمل والتسامي، وإعادة الاعتبار للرقش المحلي في المعيش اليومي لأهل الصحراء، وكذلك التعبير عن العطش الأبدي التي تشي به الصحراء في نهر الذاكرة الإنسانية.

شهادات

هذه شهادات لثلاثة فنانين ونقاد صاحبوا تجربة إبراهيم الحيسن الصباغية في معرضه الجديد، إذ تضيء تعرجاتها ومنحنياتها الجمالية الخاصة، وتطلق تأويلات مختلفة لفهمها وتلقّيها:

عبد الكريم الأزهر: الجلي – الخفي
هكذا عرفته، كثير الترحال في تجوال لا يعرف الاستقرار. يسافر من أجل شيء قد تحسبه عاديا، لكن بالنسبة إليه يكون الأمر في غاية الأهمية. يتحقق العمل لديه باستثمار يتنامى تدريجيا باحتمالات جمالية مغايرة ذات أبعاد جديدة.
في اشتغاله التشكيلي، نلامس إبداعا خاصا استمده من روح الموروث الثقافي الصحراوي. وقد نجح في استغلال أثره من نبع الفنون والصنائع العريقة والأصيلة التي راهن عليها بالبحث والتجريب، حيث الانتقاء والتطويع لأدوات ومواد الاشتغال على أسندة وفضاءات مناسبة، يعمل على صهرها وتذويبها لتصبح طيعة في تركيبة جمالية تُشعر المتلقي بمتعة بصرية أخاذة، تحكي شفافية العابر من تراكمات الزمن وأثره المنتقى بحس وجداني يستمده من رموز وعلامات الأشكال والألوان الدافئة المتدرجة والمتلاشية والأحادية «المونوكرومية»، في تجريدية صقيلة، تخضع لمختبر المبدع إبراهيم الحَيْسن، الذي يحسن توظيفها بفعل كيميائي. هكذا تستند صياغة العابر إلى انشغال مهووس يتواصل دوماً، عبر بحث دؤوب ينطلق أساسا من جزئيات وتفاصيل الحاجة، ليبقي الخام مقترحه الذي يأتى في أبهى التجليات حيث يحسن استغلال المواد المستعملة والتقنيات والرموز الدلالية التي تأخذ أبعادا لا نهائية. اليوم، داخل هذا المعرض الجديد، أكتشف عنصر اللون الذي يتبدى في أوج عنفوانه ويتأجج بانفعال إبداعي خلاق. إنه ترحال آخر.

إدريس كثير: اللامفكر فيه كروماتيّاً
ينتمي الفنان إبراهيم الحَيْسن إلى منطقة متميزة في المغرب فهو من صحرائها وتربتها الممتدة، من حيث هي رمال لا تحدها حدود، سواء في الثلث أو الربع الخاليين، ومن حيث هي بلاغة للصمت واستعارة للشعر «الحساني» والثقافة الشعبية وشعر الغزل «التبراع» والتقاليد البدوية والفروسية.. يشترك الفنان إبراهيم الحَيْسن مع الشاعر المصري اليهودي إدمون جابيس E. Jabès والروائي الطوارقي إبراهيم الكوني في شغفهما بـ»الصحراء» فهي في نظر الشاعر لوحة في حد ذاتها و»خشوع للإنصات للصمت» و»بين السماء والرمال هناك كل شيء ولا شيء». الصحراء كناية عن الفراغ والعري وصمت أمكنة العبادة والوحدانية.. وهي في نظر الثاني أساطير وتقاليد. رمال تمتد مدى البصر وكثبان رمل كأمواج البحر. في الصحراء يوجد سر الكون. غنى هذه الدلالات يجعل منها موضوع وحي وإلهام للعلماء كما للأدباء والفنانين، ومن بينهم إبراهيم الحيسن.
إذا كانت الكتابة عند إدمون جابيس هي الإنصات للصمت، فالتشكيل هو الآخر من الطينة نفسها صباغياً، لما يستطيع الفنان نقل صمت الألوان إلى اللوحة.. وتحديد توازنها انطلاقاً مما لا يمكن التفكير فيه، ولا إدراك كل جوانبه بالعين والأذن العاديتين.. نظراً لشساعة الرؤية وبعد اللانهائي يسود الصمت. وبما أن «حبة رمل يمكنها أن تشبه حبة ملح»، أو هي من تنويعاتها التي لا تحصى، فلما يصل الفنان إلى مستوى عالٍ من الإبداعية في لوحاته المتأثرة بفضاء الصحراء، يمكن أن نقول عنه على لسان جابيس: «لقد استطاع أن ينتزع الظمأ من حبة ملح». ظمأ اللون وعطش ماء الصباغة. هذا ما نلمسه في العديد من لوحات الفنان إبراهيم الحَيْسن.
وإذا كان المطلوب في الكتابة حسب الشاعر دوما هو القدرة على استعمال كلمات ممتلئة بالصمت، فالكروماتيا بألوانها وأطيافها هي الصمت عينه.. الجمالية في هذه الحالة هي إرادة استنطاق اللوحة وتجلي تعبيراتها.. لوحات الفنان الحَيْسن حين تعتمد اللون الأصفر وهي تميل إليه كثيراً، تنحو هذا المنحى.. امتلاء منظوريتها بفراغ كثيف أصفر يحاول تكليم الصمت المبثوث في حبات الرمال الكروماتية. هاجس هذا الفنان في كل منجزه الجمالي هو طموحه بلوغ تقاطع وتلاقي مكونات اللوحة بانسجام وهارمونيا مع انسجام وهارمونيا رمال الصحراء، وفي هذه الحالة ستهتم الألوان بمعانيها ومقاصدها وتلمع إليها. إذا جمعنا كل لوحات الفنان إبراهيم الحَيْسن ورصفناها صَفاً صَفاً لتكونت لنا لوحة واحدة، أو واحة واحدة، وقدمت لنا واجهة صحراوية حقيقية، برمالها وأطياف ألوانها الصفراء وعمق ظلالها البنية وتموجات كثبانها وطالع مصائرها.. ذلك أن المكان الوحيد الذي يمكن أن يتماس فيه «الكاووس» بـ»الكوسموس» هو الصحراء في حبات رملها اللانهائية. لا يحتاج الفنان هنا أن يغمس فرشاته في ما ادلهم من العمى ليجلب لنا جماليته، بل هذه الأخيرة كامنة ها هنا بين حبات الرمل وانعكاس أشعة الشمس على مراياها واندساس الجني في رداء الليل البهيم.. حضور الأساطير ربيبة الفنون تصل الآلهة بالناس وتربط مصائرهم لإناسة الفضاء الصحراوي الموحش والخالي من الآلهة. لو كانت للفن هذه الرسالة فقط لاكتفينا بها ونحن فرحين مطمئنين..

عبد الله الشيخ: فتنة النقد والإبداع معا

في زمن الرحل الغابر والظاهر بكل أخيلته وعذريته على مستوى الدهشة والكمون والاختمار. فالأعمال المشهدية الغرائبية والطلائعية التي حرص هذا الفنان الباحث على عرضها بمثابة عتبات تصويرية وشذرات تذكارية مفعمة بالحس الجمالي والانبهار الكلي أمام عالم من القيم المفقودة الآيلة للاندحار والموت الرمزيين. نحن في غمرة إبداع تركيبي يستعيد ذاكرة اللحظة الآنية وعبرها الذاكرة الإنسانية في مراقي ومقامات وجودها، بعيدا عن كل نزعات التطبيع وآليات التكييف ذات المنحنى التسويقي. فيض من العلامات والرموز الثقافية، التي انزاحت عن سياقاتها التداولية المسكوكة وعن أنظمة تمثلاتها بتعبير ماكس فيبر، هي أعمال الحيسن إبراهيم التي تشتغل على أركيولوجيا الكائنات والأشياء ذات البناءات التوليفية السلسة والحية باستمرار. أعمال إدراكية وأخرى حلمية تؤرخ لمتعة الجسد والروح معا وتنشد فرح اللحظة الآنية ونشوتها الأولى.
يعتبر هذا الفنان مؤرخا مخلصا لمتخيل الواقع المعيش بكل دلالاته المرجعية: سلسلة أداة شفط المرحاض والقوارير الجمالية لا الوظيفية، والوسائط الكتابية، والدفتر الذي دونت في تضاعيفه مختلف دروب ومسالك الأثر بتعبير الفنان، وغيرها من التجارب الطلائعية.
كل شكل أيقوني ينهض كبنية بصرية مستقلة وخالصة، وكتنويع إبدالي للأثر بصيغة الجمع الذي يصبح بفعل التشكيل الصباغي بأحباره ومواد تغريته ودمجه وعمقه الأزق الداكن (يذكرنا بأزرق كلاين السماوي والبحري المشبع بالمقامات والمدارج الروحية) أبجدية أولى على غرار أبجديات المغامرات البصرية ما بعد الحداثية التي وسمها الناقد الفرنسي بيير ريستاني عام 1960 بـ«الواقعية الجديدة»: اختار الفنان أرمان فرنانديز الأرض، واختار كلود باسكال الكلمات، في حين اختار ييف كلاين الفضاء السماوي اللانهائي، ليختار ابراهيم الحَيْسن الصحراء أو بالأحرى هي التي اختارته.

عبد اللطيف الوراريAuthor posts

Avatar for عبد اللطيف الوراري

هذا موقع شخصي للشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الواري، يتيح للقارئ العربي التعرّفَ على ملامح تجربته في الكتابة شعرًا ونقدًا، وما يسبطه من آراء متنوعة ومختلفة في قضايا أدبية ونقدية برؤية منهجية ولغة تمزج بين العمق والوضوح.

لا تعليق

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *