بعد نكبة فلسطين 1948، توجهت أنظار زعماء الكيان الصهيوني، بغرض الاستيطان، إلى جلب اليهود من أربع جهات الأرض بوسائل شتى، معلنة وسرية. وبما أن المغرب كان يضم أكبر جالية يهودية في العالم العربي، قدرتها الوثائق بنحو 250 ألف نسمة، كان أغلبهم وفد من الأندلس منذ عام 1492 مطرودين مع المسلمين في أوج الحروب الصليبية، ووجدوا في الوطن البديل مناخاً للتعايش قل نظيره، فقد تركزت تلك الأنظار عليه، بدءاً من ستينيات القرن الفائت.
عبد اللطيف الوراري
وتم، بالفعل، تهجير/هجرة يهود المغرب الذين كان معظمهم يزاول حرفاً بسيطة ويتحدر من فئات اجتماعية متواضعة، بتواطؤ مع شخصيات متنفذة في الدولة المغربية، وذلك مقابل مبالغ مالية أشرف عليها ومولها الصندوق الوطني اليهودي. وبسبب تلك الهجرات التي تمت على دفعات، وتحت إكراه غير ديني ولا اجتماعي، توجد في إسرائيل اليوم جالية يهودية مغربية كبيرة العدد، وصل بعض من أفرادها إلى مناصب مهمة في اتخاذ القرار السياسي والعسكري داخل الكيان الاستيطاني، لكنها باتت متورطة في المشروع الصهيوني، حتى أنها لم توافق رغبة الملك الراحل الحسن الثاني في أن يجعل منها ورقة ضاغطة للتأثير دبلوماسياً في السياسة الداخلية لإسرائيل حيال الشعب الفلسطيني، ولا كانت عابئة بتضامن إخوانهم من المسلمين المغاربة مع القضية الفلسطينية العادلة، ولا رعت باب حارتهم الأشهر الذي دخلوا منه حاجين إلى بيت المقدس، ولا حافظت على أوقافهم في القدس التي زادت عن مئة عقار مغربي بحي المغاربة الذي تم هدمه بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس عام 1967، بما في ذلك جامع البراق وجامع الأفضلية وزاويته. وقد أصاب الكاتب المغربي من أصول يهودية إدمون عمران المالح بقوله عندما اعتبرها مناورة صهيونية ضد اليهود المغاربة أفقدتهم هويتهم وجذورهم.
وقد ظل موضوع هجرة اليهود المغاربة وتهجيرهم إلى (إسرائيل) إبان الستينيات ذا حساسية وغير مفكر فيه عموماً، حتى أثارته، حديثاً، السينما المغربية، ولاسيما مع الفلمين (فين ماشي أموشي) (إلى أين ذاهب يا موشي؟) لحسن بن جلون، و(وداعاً أمهات) لمحمد إسماعيل، وهما بتعرضان لهذه الحقبة من تاريخ المغرب لأول مرة في تاريخ هذه السينما، بناءً على وقائع تاريخية وأحداث واقعية وأحياناً مسكونة بهم النوسطالجيا، مما أثار نقاشاً متبايناً في صفوف النقاد والصحافيين والمخرجين.. هذا النقاش بدا سريعاً ومثيراً. وقد قيل إن الخطاب التبريري، المتواري خلف داعي المعالجة الفنية، والقائل بأن اليهود المغاربة وطنيون ومتعايشون، لكنهم كانوا ضحية للاستعمار كما أظهر فيلم (وداعاً أمهات)، أو ضحية المغالطات الصهيونية فيلم (فين ماشي يا موشي) قد قفز على جوهر الموضوع الكامن بالأساس في عدم بقائهم في بلدهم، وتشبثهم به أياً تكن الظروف، لأن الوطنية إيمان قبل كل شيء. وإذا كان فيلم (فين ماشي ياموشي؟) لحسن بنجلون مر بصمت، إلا أن فيلم (وداعاً أمهات) سرق الأضواء وأثار الجدل، ولا يزال. وبالنظر إلى مستواه، يرجع بعضهم الأمر إلى كون الفيلم يدخل في إطار سياسة التطبيع، وفي الدعاية لأطروحات الصهيونية تحت مبرر فني. ولم يحظ فيلم مغربي مثل ما حظي به (وداعاً أمهات) من اهتمام، حيث عرض في كثير من المهرجانات الدولية بعدد من دول العالم، بما فيها إسرائيل الاستيطانية.
(وداعاً أُمّهات) وهجرة اليهود
يروي شريط (وداعاً أمهات) قصة حب بين شاب مسلم (المهدي ابن بنشقرون) وفتاة يهودية (إليان ابنة شوشانه) ينحدران من أسرتين مغربيتين، واحدة مسلمة والأخرى يهودية، كانتا تنعمان بحياة يخيم عليها جو التعايش والتفاهم في أحد أحياء مدينة الدار البيضاء، لكن سرعان ما ينتهي مشروع القصة بالفشل بسبب والدين محافظين، بمقدار فشل الصديقين اليهودي هنري (الذي يمثل دوره مارك سامويل) والمسلم إبراهيم (الذي يمثل دوره رشيد الوالي)، وتراجع أعمالهما في مشروعهما التجاري حيث كانا يملكان معملاً مشتركاً. في هذه الأثناء بدأت الطائفة اليهودية تواجه بعض الصعوبات المالية والممارسات غير المسبوقة، فرضتها الظرفية السياسية، والغليان الاجتماعي السائد آنذاك، مما حمل بنشتريت على القيام بتتبع عمليات تأطير وتهجير جالية اليهود المغاربة مقنعاً إياهم، بما فيهم هنري، بفكرة الرحيل إلى أرض فلسطين حيث الأمان والاستقرار وتحسن الأوضاع في (الأرض الموعودة)، حتى واكنين صاحب مكتب التأمينات الذي تشتغل به زوجتا هنري وإبراهيم روث وفاطمة، قرر الالتحاق بأحفاده في إسرائيل بعدما اتفق مع بنشقرون أب المهدي على أن يبيع له ممتلكاته.
ومن اللحظات المؤثرة في الشريط، تلك التي تأخذه إلى (هنري) وهو يتخذ قرار الهجرة موصياً صديقه إبراهيم بالعناية بأسرته على أن تلتحق به فيما بعد، لكن المركب الذي كان يقله إلى جانب المهجرين باتجاه (الأرض الموعودة) غرق ولم ينج أحد. بعد سماعها النبأ أصيبت روث زوجته (التي تمثل دورها سعاد حميدو) بصدمة لتكتشف في المستشفى إصابتها بمرض السرطان. تستسلم لمرض خبيث يأكل من لحمها حتى صار في قرارة نفسها أن أيامها معدودة. تطلب من إبراهيم وفاطمة (التي تمثل دورها حفيظة الكسوي) التكفل بابنيها أفي وعايدة، وهو ما أخلصا له وهما يكملان الرسالة، وينفذان الوصية؛ كأن الوصية درس للذكرى، وعبرة من التاريخ: تاريخ حملة ضد الوطن، وتاريخ شخصيات تحل عليها اللعنة وهي تهاجر الوطن وراء وهم بالنعيم.
تعود أحداث الشريط، الناطق بالفرنسية والعربية، إلى سنوات الستينيات من القرن السابق أيام الفترة المعروفة بـ(السنوات السوداء للهجرة) التي عاشها يهود المغرب، حيث كان يتوزعهم الإحساس بين الرغبة في البقاء في الوطن الأم أو الرحيل عنه فيما يشبه صفة الاقتلاع بسبب نشاط وإغواء وكالات تهجير اليهود إلى أرض فلسطين تحت وهم (أرض الميعاد)، معضودة من سلطات فرنسا الاستعمارية إبان الحماية، وعمل مجموعة من المنظمات الصهيونية التي انتشرت عبر بقاع العالم على ترحيل اليهود إلى إسرائيل الدولة الغاصبة وحديثة النشأة. يتطور الأمر بعد صعود حركات التحرر في الوطن العربي، والصعوبات الجمة التي فرضتها السلطات المغربية أيام الملك محمد الخامس، إلى هجرة سرية طالت الآلاف عبر (صفقة) عابرة الحدود ليشهد المغرب أكبر هجرة في تاريخه، مخزية وقاسية.
في هذا السياق التاريخي تدور قصة الشريط، الذي أتاح للمخرج عدة حقائق تاريخية في سرد حكاية تعالج، بطريقة مرنة، أحداثاً تراجيدية في قالب ميلودرامي لم تخل، مع ذلك، من ميل إلى الكوميديا، ولم تعدم روحها الإيهام بالواقعية وهي تركز على علامات الاسم والهوية واللغة في بناء الشخصيات اليهودية تحديداً، وتضفي المصداقية عليها من خلال التصوير في بعض الأماكن التي تركها اليهود الذين هاجروا، ولما تزل تنبض بالحياة وكأن سكانها لم يغادروها إلا بالأمس، يوازيه اختيار دقيق للديكورات التي جرت فيها الأحداث عبر مختلف المدن التي شهدت في الماضي كثافة سكانية يهودية مهمة شأن مدينتي الدار البيضاء وتطوان. كما كان لاعتماد المخرج على طريقة (سكوب) بصمته اللافتة من أجل أن يكون لفضاء البيئة والديكور، عبر متواليات السرد الفيلمي، عمل في تنشيط ذاكرة المتلقي وأفق تمثلاتها أو استيهاماتها، وهي تعود به إلى زمن الستينيات بكل أبعادها ورطاناتها وطقوسها، الذي يدمغه انتقاء اللباس والإكسسوارات والسيارات المستعملة.
عودة الوعي أم مصالحة الذات
لقد دخلت السينما المغربية، وهي تبحث تيمات حادة مثل الاعتقال السياسي والنقد الاجتماعي وهجرة اليهود، وعياً جديداً في تاريخها يتيح لها، بجرأة ودون خوف، مراجعة الماضي، ومساءلة الواقع ومشكلاته بعد سنوات من التهافت الجماهيري الذي ظل أسير استيهاماته العابرة. لقد كانت هجرة اليهود صدعاً حاداً في تاريخ المغرب، ونكراناً لدرس من التعايش والاحترام تقاسموه مع إخوانهم المسلمين. لقد صار للقضية حساسيتها ووعيها في الوجدان الجماعي للمغاربة: كيف أدار اليهود المغاربة ظهرهم لوطنهم الذي أتاح لهم الأمان والنشاط الاقتصادي والحرية الدينية، وأقاموا أو بالأحرى، ساهموا في إنشاء وطن آخر على حساب عذابات وآلام شعب جمعته مع الشعب المغربي علاقات تاريخية وثقافية على حديها العربي – الإسلامي، هو شعب فلسطين؟
هذا السؤال الإشكالي، من ضمن أسئلة أخرى، لم يجب عنه شريط (وداعاً أمهات)، لأنه لا يدخل في حبكة القصة ونسقها العام، بقدر ما قدم صورةً أخرى لليهودي، مغايرة عن الصور النمطية السائدة في متخيل السينما المغربية الذي يتغذى من كليشيهات مسبقة، بحيث يظهر وطنياً، متعايشاً ومنخرطاً في النسيج الاجتماعي سرعان ما يصير ضحية وهم الفكرة الصهيونية، وإن كان التحول يجري سريعاً بدون فهم حيثيات ما يجري، كأنه يدفع المتلقي، من الناحية الأيديولوجية، إلى التعاطف مع ما يحصل، والاقتناع بضرورة الهجرة، والرغبة فيها هرباً من خطر محدق، وليس طمعاً في حلم مزعوم مضر بمصالح الوطن، لأنه لا يمكن أن يكون مجرد تحرش شباب مراهقين بأفراد من الطائفة اليهودية في الشارع العام مبرراً حقيقياً يدفعها إلى الهجرة والتهجير بأعداد قيامية. قد يكون، بطبيعة الحال، للتناول الفني ومتطلباته التخييلية دوراً حاسماً في كتابة التاريخ وإعادة كتابته بمسافة ما، لكن في السينما الملتزمة بقضايا الإنسان ليس هناك صورة محايدة، طالما أن كل صورة هي موقف في حد ذاتها. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا الشريط أو غيره من الأشرطة التي تناولت موضوع هجرة اليهود أو العلاقة بين المسلمين واليهود بالمغرب في وقت متزامن هل أملتها الموضة في حساب السياسة والتجارة موجهة من مراكز سينمائية معينة؟ أم أملته قناعات المخرج الشخصية والخلاصات التي توصل إليها من خلال البحث في الأرشيفات المطمورة، بما في ذلك أرشيف جهاز (الموساد) الذي يضم وثائق سرية من العلاقات المغربية-الإسرائيلية.
إن مثل هذه الأشرطة السينمائية التي تقترب من موضوعات غير مسبوقة مهمة لأنها تثير نقاشاً غير مسبوق يخوض في أسبابها، وتوقيتها، والمقاربة المستعملة في التعامل معها، وأهم من ذلك الصورة التي يتم تقديمها من خلالها لليهود المغاربة. ومهما أبانت عن حياد في مقارباتها للموضوع، فإن سرد الصورة حتى في منطوق براءتها متورطة، وملتبسة بنسيج الأيديولوجيا، وملفوظها التالي الذي يستنطق خبايا الذاكرة، ويلملم أحداث الماضي الذي يتذكر حاضر وتداعياته.
وبعد.. مرة أخرى
وكما جاء في الإهداء، فإن المخرج محمد إسماعيل يتوجه بشريطه إلى أولئك الذين هاجروا أوطانهم، ولم يزل حب الوطن في قلوبهم حياً لا يموت. هي رسالة ما تضمر أكثر مما تصرح.. تومئ بأنامل المحبة، مثلما تشير بأصابع الاتهام.. رسالة قوية لم يتردد المخرج، رغم محدودية أدواته، في إبلاغها إلى جميع محبي السلام في العالم، وفي أن تشكل حواراً جاداً بين مسلمي المغرب ويهوده، وذلك بالرغم من المخاوف التي أثيرت قبل خروج الشريط إلى القاعات السينمائية من أن يكون لمضمونه ردود فعل سلبية في أوساط الجمهور المغربي.
ومهما يكن اختلافنا مع الفنان محمد إسماعيل في رؤيته الإخراجية إلا أننا لا نخفي تضامننا معه في كسر التابوهات، وإنضاج الوعي العارف بالتاريخ ومصائره وتبعاته. إن فترة الستينيات شكلت، بلا شك، زمناً انتقالياً بحكم ما شهده المغرب فيها من تحول، ومن غنى على مستوى الأحداث والمصائر. والعودة إلى هذه الفترة، والتفكير فيها معرفياً وفنياً يمثل ضرورة وتحدياً لمواجهة الحقيقة أنى كان طعمها. تلك الضرورة نفسها التي حفزت مخرج (وداعاً أمهات) لإنجاز عمله الفني، وتحمله جمالياً وأخلاقياً، في آن.. نأمل أن يعقب شريط (وداعاً أمهات) الجزء الثاني على الأقل، يجيب عن أسئلة الجزء الأول العالقة، وينبش في المناطق المظلمة والمسكوت عنها من تاريخ اليهود المغاربة، وهم في (الأرض الموعودة) هناك قد ضيعوا وطنهم، بقدر ما ضيعوا وطن الآخرين، ويحلمون بالعودة إليه مثلما يحلم الآخرون، خارج كل حساب إلا من حساب الحقيقة التي لا تضيع، وتظل تشع في وجدان الإنسانية.
لا تعليق