حتى إذا هلّ شهر رمضان، سرَتْ في القرية حركة غير عادية، وأخذ بعض الرجال يتردّدون على الجامع للصلاة ويلازمونه بين وقت وآخر، فيتودّدون إلى الفقيه سيدي أحمد الذي يُفقّههم – بمشقّة وعسر- في دينهم ودنياهم، بل وجدتهم يتلعثمون بأدعية وأذكار ويتنصاحون فيما بينهم في أمور الدين والموت وعذاب القبر وطاعة الوالدين والإحسان إلى المرأة وفعل الخير، وكنت تسمع بعضهم يتأفّف من « خنز » الدنيا ولا نفعها.
سمعتُ بـ(رمضان) ما إن فتحتُ وعيي على هذا العالم، وكانوا يتداولون اسمه برهبة وترقّب، وأحيانًا بنكات ومقالب مضحكة. وكان يتهيّأ لي أنه شخص بلحمه وعظمه يزورنا من بلاد بعيدة، فأظلّ أتطلع إلى رؤيته، حتى يمضي الشهر وأنا بعد لم أره أو أنعم بمصافحته. لكن لا يفوتني أن أتخيّله بلباس رجل وقور ذي لحية بيضاء، وتارة بعصا معقوفة وفردتي حذاء مصمتتين، أو راكبًا حماره ومعه ما لذّ من الطعام وزها من الحلي والثياب.
يحلُّ رمضان وقد سادت روائحه وأطايبه، فلا تجد عنتًا في أن تُميّزه عن غيره من الشهور في العادات الغذائية ووقتها وترتيبها. حتى شكل السماء، وبريق نجومها، والغبش الذي يغشى الكائنات التي صعدت إليها، يأخذ في عيني لونًا آخر من البهاء، إذ تقترب من أناملي أكثر، فأسمع لها موسيقى عجيبة كأنها تُربّت على رأسي.
من بيتنا إلى بيت الجدّة كانت ترتسم أمارةُ الفضول لديَّ لمعرفة هذه الأمور الطارئة خلال شهر كامل، وكيف أنّ أخلاق الناس وسلوكاتهم وفعالهم تلين فجأة، بل تجد بينهم قد انعقدت أواصر جديدة، وبدأوا يصطنعون لغة حذرة تتخلّلها العبارة المشهورة: « اللهمّ إني صائم ». وكنا نحن الصغار بدورنا نتلقّفُ هذه العبارة ونلوكها على ألسنتنا مع الخبز البائت من وقت السحور، ونصنع بها المقالب طوال النّهار. وما إن يقترب أذان المغرب، نتجمّع أمام الجامع في انتطار أن يطلع علينا المُؤذِّن، وكان يُدعى (العوّادي)، وهو يصدر الأذان بصوته الأجشّ، بل يجهد في إيصاله إلى الخارج من على سطح القبّة التي بلا صومعة ولا مُكبّرات صوت. وما إن يؤذن حتى نردم أعواد القصب التي نصبناها أمام الجامع، ونُطْلق سيقاننا لِلرّيح لا نلوي على شيء أمامنا يمكن أن نتعثّر به.
مرّةً يكون الإفطار في بيت الجدة التي كانت تسحرني بطبخها، وكان مرقه مائل الصفرة، وتارةً في بيتنا حيث ننضمُّ إلى طاولة العمّ الذي يجمعنا حوله مثل فِراخٍ راحت خِماصًا، مشدوهين بما كان يعرضه صندوق عجيب أمامنا من وصلات إشهارية تُسيل لعابنا، أو مشاهد هزلية تثير ضحكنا على استحياء، أو حلقات من مسلسل ديني لأشخاص ورعين وجادّين بلباس قديم فضفاض يتكلمون لُغةً لا قِبَل لنا بفصاحتها، ويتنادون بألقاب غريبة تطرق آذاننا أول مرة، ويطلقون لِحِيًّا بيضاء وشعورًا طويلة على غير عادة الرجال عندنا، ونحن نتلقّى ما يعرضونه باستغراب، ونتظاهر بالفهم أمام موقف جادّ يُعالجونه.
كان الإفطار واحدًا على كلّ الموائد، يتكوّنُ من شربة الحريرة والتمر وحلوى الشَّبّاكية والفطائر المُحلّاة، عدا القهوة بحليب البقرة الطازج. أمّا وجبة السحور التي كانت تفوتنا في أكثر المرّات، فكانت في الغالب من الرغيف المطليّ بالسمن والزيت الذي يجري سائغًا بكؤوس الأتاي، وتسمع له دبيبًا من الأمعاء حتى يقطعه أذانُ الفجر.
عبداللطيف الوراري
سرد جميل ممتع. 🦋🌼