أنس البوعناني فنان تشكيلي مغربي فتح عينيه على متحف كبير ومفتوح في أصيلة، ومن مرسم الأطفال انطلقت مغامرته مع الريشة، بمرأى الجداريات وقبالة البحر، يصادق الضوء والخيال وموسيقى الأمواج على شاطئ الأطلسي. ينتمي إلى جيل متشبع بثقافة بصرية جديدة، ويدين لتجارب مدرستي الفنون الجميلة في تطوان والدار البيضاء، لكنه – في المقابل- لا ينتج خطابا مؤسّسا موازيا لتجربته الفنية على خلاف سابقيه.
تميزت لوحات البوعناني منذ البداية بالاشتغال على البيئة التي عاش فيها، وتأثر بمعطياتها الهندسية والمادية واللونية، وكان يصاحب هذا الاختيار تدرُّجٌ نحو الشكل، من خلال استخدام تقنيات ومواد وحوامل محايثة، قابلة للتعرف والتدوير وإعادة التشكيل. كما ساهم الشريط البحري لمدينته أصيلة، في أن يدمغ هذه اللوحات على اختلاف مقاساتها بصفات الرطوبة والانسيابية والتموج بين مدّ وجزر، فتشعر كأنّها خرجت للتوّ من الماء، ومن ثم فهي دائمة الحركة والتفلُّت، ولا تستقرّ على حال، بل هي في انبعاث دائم. إنه يهندس بيد، ويرى بأخرى، على نحو يُوطّن في أعماله الفنية شعريّة موسومةً بالتقلبات، حسب تعبير الناقدة طوني ماريني، ويزرع فيها (عيون البحر) التي تشيع حولها الشعور بديمومة الحياة، كأنما هي عزاء الفنان وذريعته الأجمل للتعويض عن قبح العالم.

حاوره: عبد اللطيف الوراري

□ ولدت في أصيلة وفتحت عينيك على الجداريات ولوحات الفنّ التشكيلي ومراسم الفنانين بين الحواري والأزقة، إلى أي حدّ ساهمت هذه المدينة وموسمها الثقافي الذي يُعقد صيف كل عام، في صقل موهبتك الفنية وورّطتك في عالم اللوحة؟
■ أعتبر نفسي محظوظا كوني وُلدت في مدينة أصيلة، هذه المدينة «الفردوس» كما وصفها الشاعر المغربي وابن مدينة أصيلة المهدي أخريـف، صيف عام 1975. بعد ثلاث سنوات، انطلقت تجربة موسم أصيلة الثقافي الدولي مع جمعية المحيط الثقافية ومؤسّسيْها محمد بن عيسى والتشكيلي الراحل محمد المليحي، وثلة من مثقفي أصيلة. وكتبتُ نصا سرديا تحت عنوان «ألوان من ذاكرة مرسم» صدر في كتاب أنيق عن منشورات مؤسسة منتدى أصيلة سنة 2003، أعود فيه بذاكرتي عشرين سنة مضت، حيث أحكي عن بداياتي في مرسم الأطفال، وكيف تقاسمتُ خربشاتي الطفولية الأولى في حديقة قصر الريسوني) قصر الثقافة حاليا) داخل هذا المرسم الذي كُلفت بتسييره الناقدة الفنية الإيطالية طوني ماريني. يتعلق الأمر بتجربة فنية فريدة: حُلْمٌ في مكان للتعلم والإبداع الحر، خارج إكراهات المنطق المدرسي. حينما كنا نرتاد هذا المرسم أو «البلاسيوPalacio El» كما كنا نسميه نسبة إلى القصر (كلمة إسبانية) كانت لنا حُظوة تتبع مراحل إنجاز جداريات فنية لفنانين معاصرين عالميين مغاربة وأجانب، والدخول إلى رواق القصبة )مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية حاليا( لنستمتع باللوحات الفنية المعروضة، قبل أن نعرج على «الطيقان» (نوافذ البحر) نراقب الصيادين والمراكب، ونتأمل البحر، ثم نلج مرسم الأطفال ليبدأ إبحارنا في لعبة التعبير والإبداع.
مع مرور السنوات وجدتُ نفسي شغوفا بالفن إلى حد العشق، هو ورطة حقيقية وما زالت كذلك؛ ورطة جميلة لا مفر منها. لقد كان أول لقاء لي بالفن وعوالمه في مرسم أطفال موسم أصيلة الثقافي الدولي، تحت إشراف طوني ماريني، التي ما زلتُ على تواصل معها إلى يومنا هذا، وتشرفتُ بكتابتها لنص نقدي متميز حول تجربتي الصباغية، صدر في كتالوغ معرضي التشكيلي الفردي «من ماء ورمال» في رواق محمد السادس في الرباط في يونيو/حزيران 2022. لقد دأبتُ منذ طفولتي على الحضور والمشاركة في أنشطة هذا المشغل الفني، الذي يقام كل سنة، حيث تعرفت على الفن التشكيلي وطورتُ موهبتي الفنية بتأطير فنانين تشكيليين مرموقين من مختلف بلاد العالم ومختلف الثقافات، الشيء الذي أغنى تجربتي ومعارفي وزرع فيَّ بذرة الفن لأُصير فنانا تشكيليا.

□ أنت تنتمي إلى الجيل الجديد، وكانت بداية مسيرتك الفنية منذ عام 1995 في معرض فردي في أصيلة. ما هي في نظرك أهمّ ملامح هذا الجيل من الناحية الفنية والفكرية؟ وهل واجه صعوبات في إثبات ذاته داخل الوسط التشكيلي المصطخب؟
■ مفهوم الجيل مرتبط بالزمن. فالجيل الجديد الذي شكَّلنا ملامحه في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة أصبح ـ نسبيّاً- قديما، لأنه كان جيلا جديدا ذات يوم بالنسبة إلى الأجيال التي سبقته. في نظري، بين كل جيل وما سبقه من أجيال وأعقبته أخرى، يجب أن تكون هناك علاقة نصح وتوجيه من الجيل السابق للاحق، مع الحفاظ على علاقة الاحترام والتقدير. وأعتقد أن كل جيل جديد يحس بأنه مظلوم من ناحية الاعتراف به وإثبات ذاته، لكن هذا لا يمنع من القول، إن كل جيل جديد وجب عليه المثابرة والطموح مع الأخذ بالخبرة العملية والحياتية، وكذلك التحلي بالخصال الأخلاقية المفروض توافرها في الفنانين الكبار، فالفن بلا أخلاق لا معنى له. فيما يتعلق بملامح الجيل الذي أنتمي إليه، من الناحية الفنية، فقد نهل من تجارب الأجيال السابقة، وأتحدث هنا على وجه الخصوص عن تجارب مدرستي الفنون الجميلة في تطوان والدار البيضاء، بحيث أن هذه الأجيال في معظمها، تخرجت منهما، وهناك من أكمل دراسته في الخارج. هاتان المدرستان تجربتان مختلفتان، إلا أن كلا منهما يكمل الآخر؛ فهناك من تأثر بمدرسة تطوان ضمن تأثيرها الكلاسيكي والانطباعي وأساتذتها أمثال سعد بن السفاج والمكي مغارة وبوعبيد بوزيد، وهناك من تأثر بمدرسة الدار البيضاء وروادها أمثال فريد بلكاهية ومحمد المليحي ومحمد شبعة وحميدي وحفيظ. لكن البعض منهم تجاوز هذين التأثيرين بإبداعه لأسلوب خاص ومعاصر في آن. أما من الناحية الفكرية، فقد أنتج بعض المنتسبين إلى هذا الجيل خطابا يمكن اعتباره مخضرما، وهي مسألة إيجابية في نظري.
ما هو مُؤْسف في نظري أنّ هذا الجيل غير ناضج فكريا، ولا يُنتج خطابا مؤسّسا حول تجربته الفنية على خلاف جيل الستينيات والسبعينيات. فما يُركّز عليه هذا الجيل، إن لم يكن هاجسه الوحيد، هو الربح المادي بالدرجة الأولى – دون تعميم طبعا؛ بدليل تملُّص أفراده من الحوارات الصحافية والمشاركة في الندوات والملتقيات الفكرية، حتى لا يُفتضح فراغ خطابهم الفني وانحسار أفقهم المعرفي، وهذا ما يبرر عدم اهتمامهم حتى بالكتابة النقدية حول تجربتهم إما لعُقمها وضحالتها، أو لتصورهم بعدم جدوى الكتابة أصلاً، إلا إذا اضطر إليها بمناسبة معرض أو كتالوغ، وهذا ما أعتبره أمراً غير لائق بوضعهم الاعتباري، ولا بمجال اشتغالهم.

□ تميزت اختياراتك الفنية منذ البداية بالاشتغال على البيئة التي عشت فيها وتأثرت بمعطياتها الهندسية والمادية واللونية، وكان يصاحب هذا الاختيار تدرُّجٌ نحو الشكل من خلال استخدام تقنيات ومواد وحوامل محايثة، قابلة للتعرف والتدوير وإعادة التشكيل (قماش، ورق مقوى، رمل، مسحوق الجوز). في أي اتجاه يمكن أن ندرج أسلوب أنس البوعناني من حيث مادته التعبيرية ورؤيته للعالم؟ وهل الفنّ يبدأ عندما يبدأ العالم في الانهيار؟
■ المبدع ابن بيئته سواء كان أديبا، أو موسيقيا، أو تشكيليا، أو مسرحيا.. فكيفما كان اتجاهه الأدبي أو الفني فلا بد من أن يكون لبيئته دور في تبلور شخصيته الفنية، إما بشكل مباشر عبر نقل مناظرها الطبيعية، أو في استغلال عناصر المحيط الذي ترعرع فيه، أو بشكل غير مباشر باستلهام روح الفضاء الذي ينتمي إليه. بالنسبة لي، فإن الأمر صحيح. فحسب العياشي قشقاش، أحد العارفين بالمشهد التشكيلي في أصيلة والمتابعين له، في نصه التقديمي لكتالوغ معرضي التشكيلي الفردي في الرباط سنة 2022، فقد تميزت مجموعات أعمالي الأولى باشتغالها على البيئة من الناحية الموضوعاتية من جهة، وبتوجهها نحو اللجوء إلى تقنيات تشكيلية أقل نمطية، من جهة أخرى.

□ يشعر متأملو لوحاتك وأعمالك الفنّية وكأنها خرجت للتوّ من الماء، إذ تغلب عليها صفات الرطوبة والانسيابية والتموج بين مدّ وجزر، وتوحي تمظهراتها الشكلية بالحركة والتفلُّت، ومن ثمّ يبدو كأنَّ اللوحة لا تستقرّ على حال، بل هي في انبعاث دائم، وأنّ ما فيها من عناصر وموادّ يكاد يسيل؛ إلى أيّ مدى يمكن اعتبارها لوحات تغترف من «شعرية التقلبات» حسب تعبير الناقدة طوني ماريني؟ وأنّ (عيون البحر) ذريعة رمزية للتعويض عن قبح العالم؟
■ كما أسلفتُ القول، فإنّ لوحاتي تستمد موادها من محيطها، وهو محيط يغلب عليه الطابع البحري؛ كما تستوحي صورها ونغماتها من المحيط ذاته وطابعه. إن العالم البحري يتميز بحركاته المتموجة والقوية، لذا تراها منعكسة في لوحاتي على أشكال دائرية أو شبه دائرية، وهي أشكال حركية نتيجة لآثار الفرشاة، على نحو يعطي الانطباع بأنك في فضاء رطب مائي بارد غالبا، بسبب الضوء وقوته وانعكاسه، وبسبب الألوان ودرجاتها المستوحاة من المحيط المائي البحري نفسه. وحسب الناقدة الفنية طوني ماريني في نصها التقديمي لأعمالي الفنية: «تستكشف رسومات أنس البوعناني عالما من الطاقات السائلة، والمشاهد حيث الماء والبحر ومادتهما وتحركاتهما تنتشر في فضاء اللوحة بأشكال وخلطات متنوعة، سواء أكانت شفافة ومتدفقة، أو متزاحمة، أو متداخلة مع عناصر مختلفة من الطبيعة ومادتها؛ فهي تشكل بين «السماء والأرض» العناصر الأساسية لشعرية التقلبات. إنها مسرحية رمزية، حيث الأمواج وسيلان المياه والزوابع تقترح على الأنظار استعارات حول موضوع الماء والبحر – منشؤنا منذ فجر الزمن- باعتبارهما عنصرين أساسيين للحياة، وكونهما مرآة لنا. «عيون البحر» تعكس «أمواج الحياة» كما عَنْوَن الفنان اثنتين من مجموعاته التشكيلية».
ورغم أنّ هذه القراءات أو التأويلات قوية ارتباطا بمحيطها الإبداعي، إلا أنه يمكن أن تمتد إلى أبعاد أخرى. فهناك من يرى في الحركية المتموجة للخطوط والأشكال داخل اللوحات، وفي الانطباع بالبرودة أو الهشاشة، تعبيرا عن حالات نفسية أو مرآة لحقيقة ذاتية دفينة للفنان تطفو على سطح اللوحات. لكن الفنّ، في نهاية الأمر، يغتني بغنى القراءات والتأويلات.

□ هل يمكن تأويل ما ترسمه بأنّه سيرة ذاتية بصرية تستعيد أطوار الطفولة المترعة بالضوء والخيال والأمواج على شاطئ الأطلسي؟
■ الطفولة هي منبع الإلهام الأول.. هي متحف لصور الذاكرة وخزان لا ينضب من التجارب، عندما نعود بالذاكرة إليها نحس بعمق الحياة. هي بالفعل كذلك: سيرة ذاتية بصرية تستعيد صورا التقطتها العين في أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة، لتطفو على سطح الذاكرة عبر وحدات بصرية مستقلة تتجسد بحس الفنان ضمن ما يوظفه من تقنيات تشكيلية مختلفة.

□ بصفتك مدرسا للفنون التشكيلية، ما واقع التشكيل وباقي الفنون الجميلة داخل المنهاج التربوي للمدرسة المغربية؟
■ سؤال مهم جدا، وسبقت لي الإشارة إلى هذا الواقع المُزري في مناسبة سابقة.. هذا الواقع الذي يعيش حالة ازدواجية في الشخصية. ففي الوقت الذي أُعطيت الأهمية للمتاحف ببنائها وتطويرها، من خلال المؤسسة الوطنية للمتاحف، فما زال واقع تدريس الفنون الجميلة يعاني من ضعف حضوره، إذ لا يوجد في المغرب إلى حد الآن سوى ثلاث مدارس، لا تسمح لكل الطلاب بالالتحاق بها، وهو ما يقود إلى هدر للمواهب الفنية المستقبلية. من ناحية أخرى، هناك سياسة واضحة لتهميش تدريس التربية التشكيلية في أسلاك التعليم الإعدادي، فالمادة التي توكل إليها غير معممة ومعاملها هو الأضعفُ مقارنة مع كل مواد التدريس الأخرى، ما يجعلها في نظر التلاميذ غير ذات أهمية تُذكر، وكأنها مادة ثانوية لا جدوى منها. زد على ذلك عدم تخريج أفواج جديدة من أساتذة مادة التربية التشكيلية والموسيقية منذ سنة 2011، وتذبذب تدريس مادة التربية الفنية في السلك الابتدائي نتيجة ضعف التكوين، ونتيجة اعتبارها مادة للترفيه فقط، رغم أنها تتوفر على كراسات مدرسية معتمدة من طرف الوزارة لا يستفيد منها ماديا إلا دور النشر. إن بناء المتاحف وتطويرها وتنظيم الملتقيات والمهرجانات التشكيلية والموسيقية، وتبني الوزارة الوصية سياسة الدعم العمومي للفنون التشكيلية والمسرحيةـ، ينبغي أن يوازيه دعم الفعل التربوي في سبيل الرقي بالتربية على الجمال والفنّ، لأنها أساس كل تقدم وازدهار.

□ كيف تنظر إلى حرب الإبادة على غزة؟ وهل ما يزال أمام الفنّ ما يقاوم به من أجل الإنسان وحُرّيته؟
■ ولماذا لا نطرح سؤالا عميقا: هل الفن مجرد لوحات فنية تغذي الروح وتحلق بها في عوالم حالمة تُخرجنا من قبح الواقع؟ أم أن الفن هو حل لكل مشاكل العالم بطرق إبداعية؟ الفن في نظري أسمى مقاومة لكل آفات الوجود في كل زمان ومكان، بما يتيحه من أدب وموسيقى وتشكيل وغيرها من أصناف التعبير الفني. نحن نرى أنفسنا عاجزين ونخجل من أن نرفع أعيننا في وجه آلاف الضحايا أطفالا ونساء وشيوخا يتساقطون كل يوم، ويقاومون أبشع أشكال التقتيل.

عبد اللطيف الوراريAuthor posts

Avatar for عبد اللطيف الوراري

هذا موقع شخصي للشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الواري، يتيح للقارئ العربي التعرّفَ على ملامح تجربته في الكتابة شعرًا ونقدًا، وما يسبطه من آراء متنوعة ومختلفة في قضايا أدبية ونقدية برؤية منهجية ولغة تمزج بين العمق والوضوح.

لا تعليق

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *