عبد اللطيف الوراري

ظلت حركة النقد الشعري في المجال العربي، منذ بدايات القرن العشرين، هي التي تقود مشروع التحديث الثقافي، الذي لم يفصل طروحاته وقضاياه الكبرى عن تجديد أسئلة النص والنظرية، واللغة والفكر والمجتمع، من منظورات معرفية ونقدية كانت تتجدد على الدوام بتجدد مناهج النقد الأدبي وإوالياته في القراءة والتأويل. ومن يرجع إلى كتابات دارسي الشعر العربي، ولاسيما بعد نشوء حركة الشعر الحر التي مثلتْ في حد ذاتها حافز التغيير الكبير، وما صاحبها من معارك وسجال أدبي منقطع النظير، لا يعوزه النظر لاكتشاف أصالة هذه الكتابات ونوعيتها الخاصة؛ لما كانت سلطة معرفية وقيمة حضارية بالغة الأثر. وإذا كان أصحابها قد فارقوا الحياة تِباعا، فما زالت مشاريعهم واجتهاداتهم النقدية تواصل نداءها وتختط مسارها بيننا، في قلق وعنفوان حينا، وصمت وارتياب حينا آخر.
ثمة في أيامنا شبه إجماع في أوساط المهتمين على أن نقد الشعر ليس في أحسن حالاته، وبتنا نسمع مثل هذا الكلام: «الشعر في كل مكان، لكن لا نقد»؛ فماذا يحصل بالفعل؟ وبعبارة أوضح، على من تقع مسؤولية تراجع نقد الشعر؟
من الادعاء القول إن ثمة تحديدا دقيقا في وصف حالتنا النقدية، وفي تشخيص أعطابها ومراجع أزمتها المستفحلة، غير أن أبرز أسباب التراجع في السنوات الأخيرة تتمفصل بين أسباب ذاتية وأخرى موضوعية، أي يمكن التمييز فيها بين ما هو كمي وآخر نوعي. فمن جهة أولى، هناك ما يتصل بالشعر في علاقته بالشعر نفسه ووضعه الاعتباري، أو في علاقته بالأجناس الأدبية، وفي مقدمتها الرواية. وهناك ما يتصل بواقع النقد في علاقته بالنظرية الأدبية وبالمؤسسة الأكاديمية، أو في علاقته بسوق التأليف والنشر وطرق تداوله وقراءته، بل في نظرة الناس إلى الشعر في عالم لا شعري.
رغم الهجرة من الشعر، تنظيرا وممارسة، إلى غيره من أجناس التعبير الأدبي والفني، فما زال بيننا نقاد أوفياء لدرس الشعر، ما فتئوا يجددون في خطابه النقدي والمعرفي، بقدر ما يقترحون صيغا جديدة لمقاربته وتأويله وتنشيط زمنيته الكبرى. وفي هذا السياق، سألت «القدس العربي» بعض نقاد الشعر من هؤلاء الأوفياء: ألا ترى أن نقد الشعر الذي نشط في العقود السابقة، قد تراجع بشكل ملحوظ؟ هل ثمة من أسباب فنية وموضوعية وراء هذا التراجع من لدن النقاد والأكاديميين؟ في المقابل، هل تعتقد أن خفوت صوت الشعر وعزوفه عن القضايا الكبرى هو الذي جعل الناس لا تهتم به؟

منصف الوهايبي: تردّي الذائقة
أنا معك في أنّ النقد قد غاب أو يكاد، بل حلّ محلّه البحث الجامعي الأكاديمي. وشتّان بينهما، فالنقد عمل فرديّ ورؤية واختيار، وخبرة وتمرّس أو مراس؛ وهو من ثمّة سلطة، وأمّا البحث فعمل يشارك فيه الطالب الباحث والأستاذ المشرف؛ وهو يعدّ للجنة علمية تناقشه و »تجيزه »، وليس للجمهور أو للقرّاء عامّة. وبإمكان أيّ طالب أن يكون « باحثا »، لكن ليس بميسوره أن يكون ناقدا؛ بالمعنى الذي ذكرته. ومشكلة الشعر العربي اليوم، أنّ الذين « يُعنون » به هم من الباحثين الذين تتفاوت بحوثهم من حيث القيمة والإضافة، وليسوا من النقّاد؛ وأعرف من الجامعيّين، ناهيك عن « الشعراء » من لا يميّز بين « قصيدة تفعيلة » وقصيدة نثر » و »قائمة الطعام ». والأمر راجع في جانب لافت منه، إلى « تردّي » الذائقة، وعدم التمييز بين النصّ « القويّ » والنصّ « الضعيف » أو « المتهافت ». والذائقة ليست مجرّد انطباعات أو ارتسامات، وإنّما هي محصّلة خبرة ومراس وإيلاف النصوص. ولعلّ الأقرب أنّه يرجع إلى قلّة محصول من الشعر، ومن الثقافة؛ وربّما إلى « ارتباك » ما في منظوماتنا التعليميّة.
حال النقد هي من حال شعرنا اليوم، وهي لا تدرك في سياق الزمنيّة الخطية؛ وإنّما في سياق الزمنيّة الشعريّة. وهذه لا تتوزّع إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإنّما هي حاضر أبديّ، ولا يحتاج الشعراء بموجبها إلى أن يعيدوا إحياء « الموتى » فهم حاضرون في قصائدهم، وهم يحاورونهم باستمرار. خذ « قصيدة النثر » مثلاً، التي لم ينقطع السجال بشأنها، وهي تكتب خارج أوزان الشعر العربي، لكنّها يمكن أن تكتب بهذه الأوزان، كلّما تَخفّف النصّ من التقفية ومن « الجماليّة » الزائدة عن اللزوم، واستخدم لغة حيّة مشرعة على الحياة بتفاصيلها وشواردها، وعلى الفنون مكتوبة أو مرئيّة. ولك أن تقارن قصيدة النثر عند شعراء متمرّسين بالأوزان ولطائف العربيّة مثل أدونيس وسعدي يوسف أو سامي مهدي أو سركون بولص وغيرهم من بعض أبناء جيلنا، وشعراء جاهلين بها، لتلاحظ قوّتها عند هؤلاء، و »تهافتها » عند الآخرين، إلاّ في ما ندر. أمّا « قصيدة البيت » اليوم، لا القديمة، فهي قصيدة « بابٌ بدفّتين » كما قال لي محمود درويش مازحا، إذ اللغة فيها تخبر عن نفسها، بذات القدر الذي تخبر به عن تمثّل لحقيقة موجودة سلفا أو لمعنى قائم في العالم، وشهادة لنظام ما للكون، مرتّب ملموس.
مشكل النقد أو « القراءة » إذا شئنا أنّ أكثر شعرنا اليوم، يفتقد هذا « الحوار » حتى يكون منشدّا إلى نفسه مثلما هو منشدّ إلى سابقه؛ لكن من غير أن يكون نوعا من « شعريّة المناويل » التي تفسد الشعر. والشعر الأبقى هو المشرع على لاحقه؛ أو لأقل هو الذي ينشأ « قرائيّا ». وعليه أقدّر، والأمر يحتاج إلى تنسيب، أنّ القراءة هي التي تحلّ اليوم محلّ النقد، من حيث هي نفسها استئناف لإنشائيّة الأثر، والأثر الشعري هو في صميمه ذو طبيعة « قرائيّة »؛ فهو لا ينشأ كتابةً أو تشكيلا أو تنغيما. ثمّ يُقرأ. إنّما هو مثل النقد ينشأ قرائيّا، وهو يَقْرأ موادّه وخاماتِه وكلّ ما يدور في فضائه. لكنّه يقرؤه أساسا بحسب ما تمليه عليه طبيعة جنسه، وبحسب ما يستعيره من عناصر من تراثه، أو من الأجناس الأخرى، أو المؤثّرات التي ألمّت به.
على أنّ المشكل في كثير من الشعر اليوم، ليس العزوف عن « القضايا الكبرى »، فهذه لها منابرها، وإنّما هو غياب الحياة الحيّة النابضة التي تحفّنا في شتى مسالك عيشنا، وغياب الذات الكاتبة؛ وكأنْ لا حياة لمن يكتب، بل لا أثر؛ حتى تشابهت النصوص، وكأنّ شعراءنا يكتبون بأصابع واحدة، لكنّها مبتورة. بل ينسون أنّ مجال الشعريّة ليس اللغة، وإنّما الكلام وهو عمل الفرد ومنجزه؛ وطريقته في استجلاب المعاني الحافّة هي التي يتصرّف المجاز بمقتضاها. وهي التي تحدّ مقبوليّة النصّ من عدمها.

هدى فخر الدين: الشّعر سابقٌ على النقد
لا ثقافة عربية بلا علاقة مع الشعر العربي وتراثه. فاللغة العربية تفكّر وتتخيّل وتتفلسف وتنظّر وتظل فتيّةً وعصيّةً على الدهر بالشعر. والأشكال الأدبية لا تكون عربية فعلًا إلا إذا استفادت في جانب، ولو بسيط، من ثقافة شعرية أو علاقة أو تفاعل مع الشعر العربي. وأشمل بذلك الأشكال الحديثة أو المستجدة كقصيدة النثر طبعاً، وحتى النثرية منها كالرواية والقصة والمسرح. فتلك وإن نشأت على نماذج غير عربية من جهة، أو اعتمدت على سوابق في التراث النثري والسردي العربي من جهة ثانية، إلّا أنها تكتسب بُعدًا عربيًّا خاصًا، وتكون أرسخ وأعمق وأكثر إقناعًا في المستوى اللغوي إذا كان كتّابها أصحابَ ثقافة شعرية عربية.
الشعر لا يخدم قضايا خارجه. القضية النبيلة العظيمة لا تصنع قصيدة عظيمة، بينما القصيدة العظيمة عظيمةٌ بمعزل عن موضوعها أو قضيتها، بل تكون في كثير من الأحيان قادرة على جعل العادي عظيمًا من خلال إعادة خلقه في الفضاء الشعري، فيصير الموضوع مهما كان بسيطًا وعاديًّا أداةً للتفكير في اللغة والوجود والشعر نفسه. الشعر يعيد خلق الواقع والتجربة من خلال أساليبه وطرقه الخاصة في التفكير، ولهذا يكون قادرًا على تصوير التاريخ والتعليق عليه وانتقاده وتحديه وتصويبه بطريقة مغايرة. وهنا تمكن قدرة الشعر الفكرية. فالشعر قناة مستقلّة للتفكير في الوجود أو أنطولوجيا موازية للفلسفة. ولا تتحقق قدرة الشعر هذه على التفكير وتوليد المعرفة إلّا إذا كان وفيًّا لنفسه أولًا، وفاءً فنيّا ولغويًّا بالدرجة الأولى. الشعر لا يحمل قضايا مسقطة عليه، بل يحتضن القضايا ويشتبك معها ويعيد صياغتها بطريقة مغايرة. فهو بذلك إبستمولوجيا مستقلة كذلك، له طرقه المنفردة في التفكير في الوجود، وطرقه المنفردة في التفكير في طرق التفكير نفسه.
أما في ما يتعلق بالنقد، الشعر دائماً سابق ومتقدم على النقد. وهذا جليّ في كل الأزمان. النقد يجهد دوماً لمجاراة الشعر المتقدم عليه. والنقد الحقيقي هو الذي يعي حقيقة أن الشعر تجاوز مستمر، تجاوز إبداعي لكل ماضٍ بما في ذلك ماضي الشعر نفسه. ويظلّ النقد قاصرًا وسطحيًا إذا ظلّ معنياً بما يقوله الشعر لا كيف يقوله. إذ لا جدوى من قصيدة تقول ما يمكن أن يُقال خارج القصيدة.
أجيب عن سؤالك وفلسطين في بالي، في هذه اللحظة الفارقة في حياتنا كعرب. وأعود وأقول، الوفاء الشعري لقضية محورية مثل فلسطين، يكون بالإخلاص الفني لها وعدم التعكّز عليها والتهاون الفني بما يكتب عنها. فالكتابات التي تتعكّز على القضايا الكبيرة لتخفيَ ضعفها اللغوي وضحالتها الفكرية والفنية ليست شعراً، بل هي ابتذال للشعر وللقضايا المهمة في آن.

حاتم الصكر: أعطاب الممارسة النقدية
عليّ أولاً أن أتوقف عند ما في السؤال من كمائن وتفاصيل تتشابك وتزدحم. ليس النقد الشعري وحده موضوع تساؤل واتهام (بالتراجع)، فالشعر ذاته كمادة للممارسة النقدية غدا كما وصف السؤال يعاني من (خفوت) صوته، وعدم اهتمام (الناس) به. يضع السؤال المسألة الجمالية حول الشعر ونقده بموضع الترابط، وهذا يوفر الكثير من عناء التفصيل في الإجابة. فالنقد الشعري مرتهن بالمعدل النوعي للشعر، وبشكل أدق في تشكلات البنية الشعرية في القصيدة، لأن الحكم على الشعر كجنس أدبي، ستأخذنا لتاريخية لا تقدم عوناً في تفحص حاضر الإشكالية المفترَضة: خفوت الشعر وتراجع النقد.
وإذا ذهبنا إلى جزئيات السؤال، فسأرد على (الوفاء للشعر) بالقول إنه رهان على جمالياته التي تعيد التوازن للحياة في خضم اختلالاتها وارتباكاتها وخساراتها. فالتمثيل الشعري للحياة يهبنا تلك الفسحة الضرورية لإيجاد البديل الخيالي والعاطفي والنفسي للإنسان، وهو يصارع أزماته التي تبدأ من الموت والأمل، ولا تنتهي عند الخلل العارم في موازين العدالة الغائبة. فالتعويض الجمالي للشعر لا يمكن الاستغناء عنه، رغم ازدهار الوسائط والمقترحات الرقمية وتطور سبل القراءة وتعدد كيفياتها. لأن الشعر هو الممكن الوحيد و(الملاذ الأخير) كحلم إنساني. أما نقد الشعر فإنه يتأثر بالانصراف الحاد نظرياً وعملياً عن أدبية النقد، لصالح العودة للخطابات الاجتماعية، وربط الكتابة بالمُشغِّلات غير الفنية والجمالية. بل وصل خطر هجر الأدبية النقدية إلى حدّ تسفيه جماليات الشعر وفنون كتابته أيضاً. وربما إعلان عبث كتابته أحياناً في وهم تفوق الأنواع الأخرى عليه كالرواية. وامتد هذا الانغمار في التحليل الثقافي المفرط في نسخته العربية إلى الدرس الأكاديمي، فأمطرتنا الجامعات برسائل ودراسات ومناهج دراسية تبحث عن الأنساق في الشعر، كدلائل جرمية لإدانة خطابه أصلاً، وانتزاع مفردات النصوص للحكم على معانيها الجزئية لا دلالاتها الكلية، لاكتشاف تلك الأنساق التي تغفل النسق العام المتحكم في الكتابة الشعرية ذاتها، وما يحف بها من اشتراطات. ويلي ذلك تقلص قراءة الشعر بما هو فن أولاً، ورفع الغطاء المجازي عن الجمل الشعرية وتجاهل بلاغتها، لالتقاط مؤشرات اجتماعية وسياسية، في عودة للخطاب العقائدي الذي عطَّل الحداثة الشعرية عقوداً طويلة في العصر الحديث.
لقد عملتُ مؤخراً على جمع نصوص شعرية تلائم قناعتي بأن قصيدة الحداثة ممثلة بقصيدة النثر، دخلت في مساءلة ذاتها بوعي الشاعر ورؤيته، حتى صارت القصيدة مادة وموضوعا ً لنفسها عوضاً عن الأغراض والموضوعات الكبرى. وفي هذا العناء الميتاشعري رصدتُ أصواتاً ورؤى وتمثلات ترقى بالقصيدة إلى مستوى المدوّنة الفكرية والجمالية معاً. وهذا يشير لدخول القصيدة مناطق جديدة في مسيرة الشعرية العربية الراهنة. يقابل ذلك سلباً صعود الشعر الجماهيري المنبري والخطابي، وهو علامة على تعثر مشروع التحديث بالاحتكام إلى الوقائع الخارجية، والعمل على إحياء خطاب المباشرة والتقريرية والغنائية الزاعقة، والعودة تراجعاً إلى صلة الشعر آليّاً بالجمهور وقضايا الناس التي لا يتجاهلها خطاب الحداثة الشعرية، بل يعلي شأنها بفنية متنوعة الرؤى ومتجددة الأساليب. ما يتطلب تأهيل القراء وترقية ثقافتهم الشعرية لتلقي النصوص الحديثة.
لا أبغي هنا التصويت على (كل) ما يُكتب تحت لافتة الحداثة الشعرية، فثمة ضعف في النصوص كما هو في الأنواع الشعرية الأخرى، ورغبة في التماثل الصوتي والحماسة للشكل، واحتذاء التجارب الجاهزة. والأمر ذاته في الكتابة النقدية. فالتخبط المنهجي، والاتجاهات المضمونية، وغياب الهاجس النظري للحداثة الشعرية، وبعض المعوقات التواصلية، والاستجابات اللا نصية، تعطي ملمحاً يسمح لنا باقتراح المراجعة الدائمة، والبحث في الممارسة النقدية، وتلمُّس ما تعانيه. ولكن بالحفاظ على وجود النقد ظاهرة حضارية وثقافية وحاجة جمالية تدعم فكرة القراءة، ويوازيها التمسك بالشعر وسيلة وغاية لحياة الإنسان ومستقبله.

حورية الخمليشي: ضرورة تجديد آليّات القراءة
لا يجب أن يبقى الشعر رهين الدرس الجامع الأكاديمي. لذلك سعيْتُ، في مشروعي النقدي، إلى فتح النقد الشعري على آفاق جديدة في القراءة والتأويل. فنشرتُ العديد من الدراسات التي تجمع بين ما هو معرفي وأكاديمي وإبداعي وفنّي. ما استدعى منّا دراسة الفن والجماليات، والاهتمام بكُتُب التراث الصوفي العربي والفلسفة، ومتابعة ما جدّ في درس الشعر الحديث. والتّصنيف الأجناسي للقصيدة العربيّة و »سؤال الكتابة » وما اثاره من جدل في الثقافة الشعريّة العربيّة الحديثة. وما أفرزته الحداثة من ثقافة شعريّة وفنّيّة متفاعلة مع الشعر العالمي. وهو ما ساعدني على ابتكار ميدان مفهومي خاص بمشروع « شعريّة الانفتاح »، أي انفتاح الشعر أدبيًّا وفنّيًّا وجماليًّا على باقي الأجناس الأدبيّة وعلى الفنون البصريّة بمختلف أنماطها. فمن الشعر تستمدّ الفنون جماليّتها.
صحيح أنّ النقد الشعري يشهد تراجعاً من حيث عدد الدراسات بالنسبة لما عرفته حركة النقد الشعري في العقود السابقة، وبالنسبة لِما عرفناه مع ناقدات ونُقّاد كبار حينما كان النقد الشعري سلطة معرفيّة كسلمى الخضراء الجيوسي، وخالدة سعيد، وطه حسين، ومحمد منذور، وعز الدين إسماعيل، ومحمد النويهي، وغيرهم. وهذا لا يمنع من أن هناك اليوم دراسات جادّة في مجال الشعريّة العربيّة في ظلّ ما يعرفه الشعر من تفاعل بين الشعري والفكري والفنّي. وقد سبق لي أن تحدّثت عن هذا في العديد من المنابر والدراسات.
ولعلّ من أهمّ أسباب هذا التراجع عدم تجديد آليات القراءة، بالإضافة إلى ثقافة كلٍّ من الشاعر والنّاقد. فالشاعر الثقافي يستدعي الناقد الثقافي. لأن الشعر لغة الفكر والإحساس ولغة انسجام الجسد والفكر. والناقد اليوم يجب أن يكون مُلمًّا بالعديد من العلوم، والمعارف، وجماليّات الفنون. خاصة في ظلّ انفتاح الشعر الحديث والمعاصر على أجناس القول وأنماط الفنون البصريّة. وفي ذلك تأسيس للقراءات المتعدّدة للتأمّل والبحث، لأن النص الشعري يتجاوز مبدعه ويتجاوز قارئه؛ ما يعني أنّ ما يسمّى اليوم « بالقراءة العاشقة » لم يقد كافيًّا لقراءة النص الشعري الذي يقتضي قراءة عالمة ومبدعة وعاشقة.
كيف يخفت الشعر وهو يسكن دواخلنا ويلازمنا بحثاً عن الحبّ والحياة السّامية التي لم نجد لها طعماً في الحياة المعاصرة. إنه بمثابة الخيط الرّفيع الذي يمنح المعنى لكل مرحلةٍ من مراحل عمرنا. بذلك يظلّ دائماً متوهّجاً متحدّياً الزمان والمكان. فالشعر لم يفقد حضوره البهيّ في حياة الناس وعند كل الأمم والحضارات. إنّ عدم الاهتمام بالشعر يرجع بالدرجة الأولى إلى إشكاليّة التلقي، وعجزنا عن مسايرة تطوُّر القصيدة الحديثة والمعاصرة التي عرفت انفتاحاً كبيراً على المعارف والفنون، بالإضافة إلى هيْمنة العوْلمة والتطوُّر الإعلامي، وعجزنا كذلك عن مسايرة عصر الرّقمنة، والمعلوميّات، وما أفرزه التّعالق بين النص الشعري والمعطى التكنولوجي الخاضع لسلطة الصورة من مفاهيم جديدة للقارئ في زمننا. إضافة إلى ظهور الرواية التجارية التي جاءت مع مرحلة الاستهلاك على حساب الرواية الإبداعية، مع العلم أن تاريخ الأدب لم يعرف اختلافاً بين الشعر والرواية.

عبد اللطيف الوراريAuthor posts

Avatar for عبد اللطيف الوراري

هذا موقع شخصي للشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الواري، يتيح للقارئ العربي التعرّفَ على ملامح تجربته في الكتابة شعرًا ونقدًا، وما يسبطه من آراء متنوعة ومختلفة في قضايا أدبية ونقدية برؤية منهجية ولغة تمزج بين العمق والوضوح.

لا تعليق

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *