مع شعراء جيل الثمانينيات في الشعر المغربي، فاس 2009.


راهنٌ ممتدٌّ

نأخذ لفظة (الراهن) بمعناه الزمني، إذ هو الزمن الرهين لوقته ولحظته. الآن، الحاضر، المعاصر والمتعين حالا ومآلا، لكنه لن يكون محايثا أو متعاليا «من فوق» كأن تلك اللحظة التي يهجس بها هي وليدة نفسها، ومستجيبة لاكتفائها الذاتي، أو أن تكون تمتْ خارج أي سيرورة ناشئة، إنه تاريخ ممتد، يتذكر ماضيه فيما يحمل بذور مستقبله ويتطلع إليه على نحو من الأنحاء، ومن ثمة يرفض أن يتلبس بطابع تجريدي يسلبه أبعاده الزمنية والوجودية، أو تجاربه المباشرة التي تعتني بجدلية المعترك اليومي.
وحين ننعت الراهن بـ(الشعري) أو نقصر الشعر على راهنه، وقياسا إلى طبيعة المعرفة الشعرية، فإن الزمن سرعان ما يصير زئبقيا وأكثر هلامية وتدفقا لا يحصر في قياس أو يتوقف عند حد أو على رهان. إننا نأخذ بـ(الراهن) إذا كان يسعفنا في الاقتراب من خريطة الشعر المغربي اليوم؛ أي داخل اللحظة التي يُصنع فيها مجهول معناه مأهولا بدم الذوات ومداد الخطابات مستأنِفيْن الوعد بلغة الشعر وحداثته، عبر شتى ترحيلاته ومكابداته بين الحضور والغياب، الذاكرة والنسيان، النظام والفوضى. لهذا من البطلان القول باستقراء الراهن استقراء تاما، طالما أن مجهوله أكثر من معلومه، والمتحقق أكثر من ممكنه. الراهن هو ما انتهى إليه زمن الكتابة في الشعر، في سيروراتٍ متشعبة ترفد أكثر من معنى، أكثر من تاريخ؛ وهو، بهذا المعنى، ما يفتأ يتغير ويتحول، بحيث يستمر في التشييد وإعادة البناء الذي لا يكل، شبيها بذلك التوتر الدائم الذي لا يهدأ بين الحاضر وما هو ضد الحاضر، لأجل أن يظل الحاضر مغايرا.
يسوقنا هذا الاعتبار إلى القول إن الراهن لم يعد يعني جيلا بعينه، وإنما تخلقه وتتفاعل داخله تجارب ورؤى وحساسيات مختلفة، متمايزة وغير متجانسة في تصورها للفعل الكتابي وتدبر طرائق إنجازه، بحكم تنوع مصادر العمل الشعري لدى الشعراء، واختراقاتهم المعرفية والجمالية لآفاق أخرى من الكتابة. لقد صار كل جيلٍ شعري من أجيال القصيدة المغربية الحديثة، الممتدة لعقود ستة، يطبع قطاعا نوعيا من جسدها الفتي بهويته وأسلوبه ولغته وإيقاعات ذاته، أي بخصوصيته حالا ومآلا. لا يُفترض في الخصوصية أن تكون تحولا أو ضربا من القيمة المضافة، بل وجود كتابة أو حساسية أو رؤية من طراز خاص ونوعي، تكرس قيمة من قيم التحديث المختلفة، وتعمل خارج السائد والمجمع عليه الذي يحاول بدوره تعطيل راهن الشعر والعمل على ارتهانه إلى صيغ وأنماط وأشكال مطروقة.

الراهن بوصفه سيرورة

في راهن الشعر المغربي نُصغي إلى هذه الحداثة، المتحولة باستمرار. تتبلور متخيلاتٍ جديدة، وترتجف مشاريع الأيدي بالقول الذي يُمضي سؤاله الخاص في هذه اللحظة بالذات، من أيْـدٍ ترعى ملكوت الأشواق إلى أيْـدٍ تتوهج في العبور المتدفق باستمرار، وهي جميعها لشعراء من أراضٍ وأوفاقٍ وحساسيات مغايرةٍ ترتاد أفقا شعريا، وتفتح في شقوقه وبروقه وعيا جديدا بالمسألة الشعرية برُمتها. من مطلع التسعينيات إلى اليوم، أمكن لنا أن نتبين الملامح النوعية والجديدة التي تتفاعل في الراهن الشعري، وقد تأثرت بعوامل سياسية وسوسيوثقافية متسارعة وضاغطة، محليا وعربيا وعالميا: (احتجاجات 1990 في فاس وغيرها، سقوط جدار برلين، حرب الخليج وتداعياتها الجيوسياسية، انفراط انهيار الأيديولوجيات الجماعية، صعود التكنولوجيات الجديدة، احتجاجات «الربيع» العربي، وباء كورونا، تهديدات الرعب النووي، إلخ). وقد جرت، خلال هذه المرحلة، حركة نشر مُلحة ومُطردة للشعر المغربي في كل أشكاله وتعبيراته، فتضاعف الإنتاج الشعري بشكلٍ لافت، إذ بلغ عدد العناوين الشعرية الصادرة في عقد التسعينيات أربعمئة وواحد وعشرين عنوانا شعريا، ونحو ألف عنوان في العشرية الأولى من الألفية الثالثة (993) واقترب من الألفين في العشرية الثانية منها، بما في ذلك أكثر من مئة عنوان طُبع في المشرق، بين بيروت والقاهرة ودمشق وعمان تحديدا. كما ارتبط الارتفاع الكمي للإنتاج الشعري المغربي بديمومة توسع بنية منتجي الأعمال الشعرية، حيث انتقل عددهم إلى المئات، بما في ذلك حضورٌ لافتٌ للصوت الشعري النسائي، الذي رفد خطاب الشعر المغربي بمتخيل جديد ووشمه بتلويناتٍ وصيغ وتعبيرات كان في حاجةٍ إليها، بحيث إن عدد المجاميع الشعرية بصيغة نون النسوة لم يعد على رؤوس الأصابع كما كان، بل تفجر بشكل مذهل. ونرجع هذا الارتفاع إلى ازدياد دور النشر وتعدد وسائطها الرقمية، وتعايش مختلف الأجيال الشعرية جنبا إلى جنب، وظهور قصيدة النثر التي بدت وسيلة تعبير الجميع حتى لمن هم خارج تصنيف الشعراء، إلخ.
وبموازاة مع ذلك، امتدت جغرافية الشعر المغربي لتشمل هوامش وأطرافا جديدة، ومنافي في أوروبا والولايات المتحدة وكندا. ولم يعد لسان الكتابة الأدبية، شعرها ونثرها، محصورا في لغات كالعربية والأمازيغية والفرنسية، بل تعداها إلى لغاتٍ أخرى، أوروبية تحديدا، ذلك ما فجر المركز وعرض وظائفه وتسمياته لتهوية غير مسبوقة، ما ترتب عنه مراجعاتٍ فكرية وجمالية لا يزال النقد معطلا عن إظهارها وتقويمها. كما انتظم عدد من الشعراء في حركات وجماعات شعرية طرحت قضايا معرفية مغايرة في كراريسها وخراطيشها الرمزية (إسراف، أصوات معاصرة، الغارة الشعرية، البحور الألف، مكائد، دبـوس، المركب الشعري، كراريس تيزي للتداول الشعري..) وظهرت إلى السطح هيئات أدبية وثقافية جديدة تعنى بالشأن الشعري، مكملة لاتحاد كتاب المغرب لسان حال الأدباء الوحيد إلى ذلك الوقت، أو خارجة عنه بما يُشبه الاحتجاج وعدم الرضى لواقع الأزمات التي كانت تضرب الاتحاد بين الفينة والأخرى، نذكر من جملتها: (بيت الشعر، رابطة أدباء المغرب، منتدى الديوان، جمعية الشعر المغربي المعاصر، صالون الأدب المغربي، جامعة المبدعين المغاربة، رابطة كاتبات المغرب، رابطة أديبات وأدباء الشمال في المغرب، إلخ)؛ فضلا عن المهرجانات الشعرية التي تُقام باطراد في المركز والهوامش، وتأسيس جمعيات الشباب الباحثين والمحترفات ومراكز البحث في رحاب الجامعة المغربية، التي بادرت إلى دورات ومحاور دراسية لمساءلة أوضاع الشعر في المغرب، ومشاركة نخبة موسعة من الشعراء المغاربة في مهرجانات شعرية دولية، وبروز ترجمات للشعر المغربي الحديث والمعاصر، إلى أهم لغات العالم، ومنح جوائز جهوية ووطنية وعربية للشعراء الشباب، ونشاط داري الشعر في مراكش وتطوان. لكل هذه الاعتبارات، نقول إنها بصدد سيرورة تحديث، أو مرحلة انعطافٍ نوعي وكمي بارز في مسارات الشعر المغربي المعاصر.

شعر أفراد لا شعر أجيال

يتقاسم أفقَ الراهن، بدرجةٍ وأخرى، نمطا قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، كما أن نمط القصيدة العمودية، الذي انحصر إلى وقت قريب في فضاء مناسباتٍ قومية ووطنية بسبب ما يفرضه من تمثيل نوستاليجي وإشباع لا واعٍ لوجدان الجماعة، أخذ يُسمع من جديد لدى شعراء موهوبين. لكن قصيدة النثر باتت لسان حال الشعراء الجدد، الذين لا يُخفي قطاعٌ كبير منهم تهافته على كتابتها، بغير علم أو عن حسن نية إذا جاز القول. من هنا، لا يخفى على المتتبع للحركة الشعرية الواقع الطاغي الذي أخذت تحتله قصيدة النثر، التي تعني كل شعر خارج شرط الوزن والقافية، حتى إن كان كثيرٌ من نماذج هذه القصيدة لا يرتقي – كتابيا – إلى مستوى الشعرية. وإذا كنا نجد شعراء من أجيال متعاقبة، بما في ذلك جيل الستينيات الريادي، ينتمون، فكريا وجماليا، إلى هذا الراهن، فإنا وجدنا أفرادا من الجيل نفسه لا يكتبون بسويةٍ واحدة، ولا يجمع بينهم فهْمٌ محدد للعمل الشعري، ووجدنا أفراد الجيل والجيلين يشتركون في هذه الخصيصة أو تلك، ويتنازعون هذا البعد وذاك.
ولا شك في أن ذلك ما يُغني الشعر المغربي ويصنع حيويته، بالقدر الذي يعكس من خلاله صراعا ضمنيا بين حساسياتٍ وجمالياتٍ متعارضة. هكذا، ينحدر شعراء الراهن من جغرافيات وتُراثات ومرجعيات متمايزة في كتابتهم للقصيدة، فلا يجمع بالتالي بينهم تصور محدد لتدبر آليات عملها. في الراهن الشعري، لم يعد شاعرٌ محسوبا على جيلٍ بعينه، بل صار منتميا إلى مغامرة الراهن، وحساسيته، ومعركته كذلك. فالشاعر محمد السرغيني- شفاه الله – لم يعد ستينيا، ولا محمد بنطلحة سبعينيا، ولا وفاء العمراني ثمانينية؛ بل إنهم أبناء راهنٍ يتم هنا والآن، شرعيون وذوو حظوة وشأو، وإليه ينتسب شعراء الحساسية الجديدة، والمهجريون أنفسهم.
إن ما يحكم مغامرة الراهن الشعري في المغرب هو الاختلاف والتعدد، بسبب ما يحفل به المشهد الشعري من تعدد مثمر وحياة خصيبة وواعدة، ومن ثراء المتن الشعري المغربي المعاصر، كما ونوعا، وتجاذب منتجيه من كل أعمار الكتابة وجمالياتها ورؤاها للذات والطبيعة والعالم. هكذا، يحق لنا، وسط هذه الغابة الوارفة الظلال التي يضوع عبقها في كل الأنحاء، أن نتكلم عن راهنٍ شعري متنوع وخصيب يعبر الأفكار ومشاريع الرؤى ومتخيلات الكتابة وذواتها مع ما للزمن من استحقاقاتٍ، كما يحق لنا أن نعجب بتعايش الشعراء من كل الأجيال والرؤى والحساسيات داخلها، منخرطين في تحديث الشعر والرقي بجمالياته المتعارضة، وإن كان النقاش المفتقد بينها – كما كان في العهود السالفة – لا يساهم في خلق حركة فكرية وجمالية موازية.
لا يزال الراهن راهنا، وما تزال الكتابة ذاتها لا تكل من رج أشجار النسب المغربي الحديث للشعر والشعرية، هنا والآن: من جيل المؤسسين الذي حدثوا القصيدة وأصغوا إلى روحها الحديثة، إلى حساسية/ حساسيات جديدة تواصل مشروع التحديث لتستحق صفة الانتساب إلى كتابة تبدأ كل لحظة يكون فيها ثمة عملٌ، وثمة ذات تُفكر في مستقبل المعنى وكل تاريخ ولاداته وانعطافاته، عبر كل أشكال «كيف يمكن أن نكون حديثين» بتعبير آرثر رامبو، التي تمضي، ويبقى الراهن راهنا، لكنه اليوم راهن معولم ومتدفق يهدم الحدود ويضع كل الأشياء التي في طريقه ضمن مسارٍ لا ينتهي.

عبد اللطيف الوراري

المرجع: القدس العربي، نُشر بتاريخ 25 فبراير 2023.

عبد اللطيف الوراريAuthor posts

Avatar for عبد اللطيف الوراري

هذا موقع شخصي للشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الواري، يتيح للقارئ العربي التعرّفَ على ملامح تجربته في الكتابة شعرًا ونقدًا، وما يسبطه من آراء متنوعة ومختلفة في قضايا أدبية ونقدية برؤية منهجية ولغة تمزج بين العمق والوضوح.

لا تعليق

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *