حاوره: ياسين حكَان
س: يحظى الشعر عندك بمكانة خاصة على مستوى الكتابة والنقد. دعني أسألك في البدء: ما الذي جاء بك إلى الشعر؟
الإنسان هو الذي جاء بي إلى الشعر، والطفل الذي يسكنني، وحشائش الفردوس التي معي، والحلم بأن تكون غيرك. كتبتُ الشعر وأنا لا أعرف أنّه شعر، وبحثت عنه في غفلة منّي؛ في كتب المدرسة وتراث الأقدمين وجذوع الأشجار والخربشات على جدران المدينة، وسمعته من داخلي ومن زقزقات العصافير ومخاضات السماء، ومن أفواه المساكين والفقراء إلى الله. عندما دخلت القواعد على الخطّ تغيّر الموضوع تمامًا، وتغيّرت خطط الرحلة.
س: ماذا تقصد بـ(القواعد)؟
أقصد العروض والقافية، ووجوه البلاغة وتحسين الكلام، ونظام الأغراض، وكيفيّات القول وبنائه. بمعنى أن ننتقل إلى المفهوم الثقافي للشعر كما يمليه عليك تراثك الثقافي وذاكرته الحضارية والقيمية والجمالية، وهو تراث غني وممتدّ ومتنوع لا يقف عند حدّ. وقد سمح لي الصفّ الدراسي منذ الثانوية أن أتشرّب هذا المفهوم، وأعي حدوده، وطرق تمثُّلي الذهني والفكري، قبل أن يستوعي الوعي بضرورة الكتابة بأسلوبك الفردي، ثم تستوي بعد ذلك ملكة النقد كما صقلتها من مقروئيّتك وذائقتك الفنية وأشكال تأويلك المحايث.
س: أليس ثمة تناقض أو توتر بين كتابتك للشعر ونقده، وبالتالي يمكن أن تضحي بأحدهما لحساب الآخر؟
هو توتّر كعامل إخصاب، وليس تناقضًا. أنظر إلى الفعاليّتين الشعرية والنقدية باعتبارهما وُلدا من سؤال الوجود وألوية التعبير عن الكينونة وقيمها الخاصة، وكلتاهما – عندي- متجاوبتان يكمل بعضهما الآخر ويلبي حاجةً نفسيّةً أو معرفيّةً، علاوةً على ما ينهضان به من أعباء التأمل والسؤال والبحث. ومن ثمة، أحاول أن أحتفظ بالتوازن الخلّاق بين الفعّاليتين معاً. كتابة القصيدة تحتاج إلى استغراق شبه كُلّي ينقطع إلى أسرارها وما يفعله دبيبها في الروح والوعي، لكنها لا تنفصل تماماً عن اشتراطات الكتابة التي تدبّر بؤر تشويشها وتخلّصها من زوائدها، كما لا تنفصل عن خصوصيّات الجنس الذي تنكتب داخله. أما في لحظة الممارسة النقدية، فأنا أذهب إلى النصوص وأقترب منها مصغياً إلى فرادتها وشعريّتها بابتهاج ووعي، ولكن بلا سخف أو تجميل تحت طائلة المنهاجية الثقيلة. وحتى داخل الوضعية الديداكتيكية لتدريس النص الشعري، أحرص على أن يقدم هذا النص نفسه كتعبير جماليّ ومؤثر يعين على تنمية الذوق الفنّي .
س: هل لهذا السبب ينحو مشروعك الكتابي إلى الاهتمام بنقد الشعر تحديدًا؟ ثم ما هي عناصر هذا المشروع وأولويّاته إذا صح التعبير؟
نعم، قد يكون ثمّة مشروع، ولكنّه داخلي ومتطوّر بـﭑستمرار، لا يعلن عن نفسه بسهولة، أو يطمئنّ إلى ما ينجزه بدون قلق وانشغال حقيقي بالمشكلات المطروحة. من هنا، أعتبر ما أكتبه إرهاصات كبرى داخل هذا المشروع، وهو يتحرّك داخل مشاريع الشعرية العربية باعتبارها خطابا محايثًا وموازيًا يبحث صيغ وأشكال تطوُّر القصيدة العربية من عهد إلى آخر. وقد ابتدأ هذا النوع من « المشروع » منذ اعتكافي على قراءة المنجز النقدي والبلاغي للشعرية العربية أيام دراستي الجامعية، وشغفي بنصوصه المؤسِّسة والكبرى، وهنا أدين لأساتذة أكفاء بما تحصلّتُه من ضروب الفهم والمعرفة؛ من أمثال: إبراهيم السولامي ومحمد بنيس ورشيد يحياوي ممن أشرفوا بالتتالي على بحوثي الجامعية في الإجازة والدراسات المعمقة والدكتوراه وغيرهم.
واسمَحْ لي أن أذكر – بشيء من التفصيل- أبرز معالم هذا المشروع:
*درستُ المعنى في الشعرية العربية قديمها وحديثها، مبرزاً كيف انتقل الاهتمام من تراتبية المعنى وأسبقيّته في شعريتي البيان والتخييل من خلال التشديد على المقصديّة ووضوح الدّلالة أو على المحاكاة والتأويل النفساني، إلى الاهتمام بدلاليّة الخطاب في سياق ما تمّ إبدالات معرفية وجمالية تأثّر بها بناء المعنى وآليّات اشتغاله في الشعر الحديث، وما ترتَّب على ذلك من أزمة تلقِّي المعنى الجديد.
*ثُمّ قادتني قراءتي للشعر العربي وشغفي بموسيقاه إلى لملمة كثير من القضايا التي تتّصل بالعروض والإيقاع في الشعر العربي ونظريّته، مُبْرزاً كيف تطوّر تأمُّل مفهوم الإيقاع في الدراسات ذات الصلة، وتطوّرت آليّات تلقّيه من خلال ما كانت تفصح عنه تعبيرات العلماء الجماليّة تبعًا لمجال بحثهم (البلاغة، النقد، الفلسفة، علوم الأصول والتجويد…)، وبحسب إمكانات فهمهم لعمل الإيقاع في الشعر العربي بأشكاله المختلفة.
*وقد ترتّبت على الوعي بالإيقاع مشكلة التقابل بين الشعر والنثر.؛ فالتقابل بين النَّثْر والشِّعْر يكشف عن نفسه في ثلاثة معالم : البيت الشّعري، الـ »صُّورة » والتَّخييل، بما هي معايير استعماليّة. وقد بحثت كيف تشكّلت ثنائيّة الشعر والنثر، وهل كانت مقابلة أحدهما بالآخر تفيد في توضيح الحدود وتجلو العلاقة بينهما، ثم كيف قاد الخلط بين الإيقاع والوزن إلى تعقيد وضعية الكتابة.
* في سياق انشغالي بتحليل نصوص الشعر الحديث والمعاصر، وجدت أن مفهوم الجيل لم يعد يسعف الدارس لقراءة أقلّ خيانة، فاستعضتُ عنه بمفهوم الحساسيّة الذي يتجاوز الأول ويعنى أساسًا بوضعيّات الدال في الخطاب الشعري، لا بأعمار فاعليه وممثّليه شيبًا وشبابًا وتصنيفهم كيفما اتّفق.
* راهنًا، ينصرف جهدي إلى قراءة السيرة الذاتية في الشعر، وتأويل اشتغالاتها الخاصة عبره، بعدما لفت نظري أن المكون السيرذاتي لم يعد الأمر مُجرّد إشارات أو مقاطع عابرة يتلبّسها الملفوظ الغنائي مثلما كان في معظم أزمنة الشِّعر، بل ارتقى هذا المكون في الشعر إلى درجة عالية من الفعل والحضور، وذلك في ظلّ تغيُّر أوضاع الدالّ الشعري، وانحسار صوت الأيديولوجيا المعمّمة، وأزمة الذات المعاصرة، والتداخل النصي للأنواع أو التخلُّل الأنواعي الذي كسر الحدود بين الشعري والسردي.
لكن، مع كلّ هذا المسار المتشكّل باستمرار، لا أدّعي أنّي مُنظِّر للشعر. التنظير للشعر يتطلّب خبرة كبيرة به وعملاً يتّجه بالنقد نحو إبستيمولوجيا الكتابة التي ترتبط، في تصوُّري، ببناء المفاهيم التي تكون نتاج تفاعل بين الممارسة ونظريّتها. ما زلت أتعلّم وأعتبر نفسي تلميذًا في محراب المعرفة، إلّا أنّ عملي على نقد الشعرية العربية وتأويل النصوص والتجارب الشعرية الجديدة يبقى – بتواضع غير مفتعل- مُهمًّا في هذا الاتجاه: من المعنى إلى الإيقاع، ومن الشعر إلى النثر، ومن بناء الذات إلى تخييلها عبر رهان الغيرية.
س: دعنا نتوقّف عند ما انتهيتَ إليه، أقصد السيرة الذاتية في الشعر، وهنا أشير إلى كتابك الجديد المعنون بـ(سير الشعراء: من بحث المعنى إلى ابتكار الهوية). ما هي هذه السير التي كتبها الشعراء؟ وإلى أي مدى يمكن الحديث عن تحطيم الحدود بين الشعر والنثر؟
معلومٌ أنّ رواد التنظير للسيرة الذاتية كرّسوا معظم جهودهم في ربط السيرة الذاتية رأسًا بالسرد، وكانت أغلب النماذج التحليلية التي استندوا عليها منتقاة من أعمال سيرذاتية سردية، وسلكوا فيها مناهج في التفكير والبحث مختلفة تناولت تجلّيات الذات في الخطاب من منظورات شتى (البنيوية، السرديات، السيميائيات، جمالية التلقي…). ورغم أنّهم لم يستبعدوا بعض المحاولات التي اتخذت الشعر أداة لكتابة السيرة الذاتية، فقد أدلوا في هذا الصدد بجملة من التحفُّظات المنهجية. من هنا، يفرض مثل هذا السؤال نفسه: كيف يمكن للباحث أن يتخلّص من عبء التنظيرات السيرذاتية المكرسة للنثر، وللسرد بخاصّة، ليبتكر إطارًا نظريًّا خاصًّا ومستقلًّا يستفيد مما سبقه ويكون ملائمًا لدراسة تجلّيات السيرة الذاتية في الشعر؟
هذا هو موضوع الكتاب الذي أشرتَ إليه، على وجه الإجمال.
بخصوص السير التي كتبها الشعراء منذ حركة الشعر الحر على الأقل، فيمكن تصنيفها في ثلاث: سير ذاتية، سير ثقافية، سير شعرية نثرًا، سير ذاتية شعرًا. ففي ظلِّ التداخل بين ما هو شعري وما هو نثري أو سردي، تتحوّل البنيات، سرديّةً كانت أم شعريّةً، إلى مجالٍ مفتوحٍ ومرنٍ لاستيعاب التنوُّع أو الحوار الأنواعي على صعد اللُّغة والبناء ومتخيَّل الكتابة. لقد أضحت السمات المهيمنة التي تعبر من نوع معيّن إلى نوع آخر سمات مشتركة تنتمي إلى الأدبية، أكثر منها إلى الشعر وحده أو إلى النثر وحده. فكما يمكن الحديث عن عبور تقنيّات السرد إلى الشعر أو نصوص قصيدة النثر تحديدًا، يجري الحديث – بموازاة مع ذلك – عن اختراق الشِّعر لعدد من الأنواع السردية التخييلة وغير التخييلية، بما فيها السيرة الذاتية، فيحدث نتيجة ذلك عنصر الهجنة الذي يُولّد سرودًا جديدة أو يصعب تصنيفها مثل الرواية الشعرية، أو المحكي الشعري، أو الكتابة عبر النوعيّة بتعبير إدوار الخراط الذي أولى اهتمامًا ذا اعتبار للسرود ذات الحمولة الشعرية، ووجد في لجوئها إلى الشعر واعتمادها عليه بمثابة الخلاص من الرثاثة والابتذال والمهانة التي يتميز بها الواقع المحيط بنا.
في السيرة الذاتية الجديدة، يحدث تطوُّرٌ يمس أطر المحكيّ بقدر ما يبلبل مفاهيم الشكل التعبيري الخاص بها. فالسيرة الذاتية تتناول بالسرد، شأن الرواية أو القصة، حدثًا ما مضى من حياة المؤلِّف، لكن الـمُعوَّل عليه هنا ليس استعادة ماضي الأحداث وتذكُّرها وحسب، بل الكيفية التي تروى بها هذه الأحداث من جهة، وطريقة النظر إليها استدعاءً وتخييلًا، وما تفصح عنه في تسريدها للذات وللعالم من جهة ثانية.
هكذا قمت بتحليل نماذج من هذه السير التي كتبها شعراء العربية المحدثون والمعاصرون، إذ يخصّ كل فصل بمحور تيماتي وجمالي يتناول تحته عيّنة من هذه السير التي تحقق شرطي المواءمة والنجاعة المنهجية. يبحث الفصل الأول السيرة الشعرية بوصفها كتابة مضاعفة من خلال « سيرة شعرية » لغازي القصيبي، و »الجسر والهاوية » لمحمد بنطلحة، و »قلب العقرب » لمحمد حلمي الريشة. وفي الفصل الثاني يتم الاقتراب من شفافية اللغة وعمل الذات من خلال « رحلة جبلية، رحلة صعبة » لفدوى طوقان، و »الجندب الحديدي » لسليم بركات. وفي الفصل الثالث يجري تفكيك جماليّات محكي الطفولة من خلال « البئر الأولى » لجبرا إبراهيم جبرا، و »أوائل زيارات الدهشة » لمحمد عفيفي مطر، و »فراشات هاربة » لعبدالكريم الطبال. وينتقل الفصل الرابع إلى الحديث عن شعريّة المفارقة من خلال « رأيت رام الله » لمريد البرغوثي، و »الصعود إلى الجبل الأخضر » لسيف الرحبي. وفي الفصل الخامس يُنظر إلى السيرة بما هي ابتكارٌ للهويّة من خلال « متاهة الإسكافي » لعبد المنعم رمضان و »شطحاتٌ لمنتصف النهار » لمحمد بنيس. ويتناول الفصل السادس السيرذاتي في النص الشعري وانتقاله من المرجعي إلى التخييلي عبر المجاميع الشعرية: « تركيب آخر لحياة وديع سعادة » لوديع سعادة، و »مقاطع يومية » لصلاح فائق، و »كأنّي أُفيق » لعبد الرفيع جواهري.
يمكن القول إنّ السير التي كتبها بعض الشعراء وجنَّسوا محكيّاتهم تحتها (ذاتية، ثقافية وشعرية)، وهي قليلة بالقياس إلى عشرات السير الأخرى التي ألّفها مؤلفون من زوايا ومشارب وأفهام أخرى مختلفة، تُعبّر عن روح جديدة في كتابتها، وعن كيفيّاتٍ مخصوصة في بنائها وتخييلها، ويتجلى فيها الشِّعر بأناه الغنائي والمجازي حاضِرًا فيها بكثافته ليس على مستوى الكون الاستعاري والتخييلي لهذه السير، بل كذلك على مستوى تشييدها فنّيًا. وقد أثارت مثل هذه السير، مُجدَّدًا، مسألة الشعر المقيم في قلب الظاهرة السردية. والعكس صحيح؛ عندما يتعلق الأمر بالسيرذاتي وشكل استضافته داخل الفضاء الشعري.
للإشارة فقط، فإنّ هذا الكتاب واحدٌ من تآليف قيد الطبع أو الإعداد تندرج ضمن بحث المشروع السيرذاتي في مجال الشعرية العربية بكلّ أنواعه (مجاميع شعرية، رسائل، يوميات ومذكرات..)
س: أسأل عن وضع السيرة الذاتية في ثقافتنا العربية. هل مازال ثمة خوف عند الناس من البوح والاعتراف، أم تغير الوضع بتغيُّر العصر والثقافة؟
السيرة الذاتية كما تواضع على تسميتها حديثًا، لم تُحقّق طفرتها الحقيقة ويتمّ الاعتراف بها كـنوع أدبي إلا في الربع الأخير من القرن العشرين، إلا أنّ أصولها عريقة في الثقافات الإنسانية، بحيث نكتشف مجموعة من الأشكال السيرية والسيرذاتية تبلورت منذ العصور القديمة ومارست تأثيرها الواضح على غيرها من أجناس التعبير. وفي قديم ثقافتنا العربية، كانت التراجم والسير من الأنواع النثرية القديمة محطّ اهتمام الأدباء والعلماء العرب القدامى ممّن كانت لهم منزلة أو سلطة ما في مجتمعهم أو في دواليب الحكم والسياسة، حظوا بها أو دفعوا إليها. غير أنّ هذه السير والتراجم داخل سياق التقليد السيرذاتي العربي- الإسلامي لم تكن ترقى في معظمها إلى مقام البوح والاعتراف كما في الثقافة المسيحية؛ فوظائف كتابة السيرة الذاتية وغاياتها وتبريراتها كما يذكر جلال الدين السيوطي ترجع إلى « مقاصد حميدة، منها التحدث بنعمة الله شكرًا، ومنها التعريف بأحوالهم ليُقْتَدَى بهم فيها ويستفيدها من لا يعرفها، ويعتمد عليها من أراد ذكرهم في تاريخ أو طبقات ».
في العصر الحاضر، نتيجة تغيّر الوضع العامّ وازدياد الوعي بأهمية بحث المبدع الفرد عن معنى حياته، واستلهامه من الفكر الليبرالي المؤمن بحريته كفرد، ثم لاحقًا نتيجة انفجار وسائل الإعلام وتوسيع الهامش الديمقراطي والانفتاح على ثقافة حقوق الإنسان وانتشار المدونات الشخصية، بدأ نلاحظ انتعاش الفضاء السيرذاتي وحضور الأدب الشخصي بقوّة في جميع أجناس التعبير الأدبي الفني (رواية، شعر، سينما، موسيقى، مسرح..). ورغم ذلك ليس هناك اهتمام حقيقي وجدّي بهذه الكتابات الذاتية والشخصية بحكم أنّ هناك رؤية نقدية تحقيرية حول هذه الكتابات، وأنّ الثقافة الغالبة التي تحكمنا لم تبرح ذهنيّة النسق وطابوهات التحريم التي تناقض أبسط موجودات الوجود الإنساني في شرطه الأرضي.
*نُشر الحوار في الملحق الثقافي لجريدة (العلم)، بتاريخ 20 ماي 2021.
لا تعليق