ينظم مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان- جامعة عبد المالك السعدي، مؤتمره الدولي السادس في موضوع: « التأويليات والدراسات ما بعد الكولونيالية: إدوارد سعيد وعبد الكبير الخطيبي نموذجين »، يومي 21 و22 ماي 2024. وقد جاء في الورقة العلمية التي تؤطر المؤتمر:

    إذ نتوجه بهذا الاستكتاب إلى الأكاديميين والباحثين المتخصصين في التأويليات (hermeneutics) أو في الدراسات ما بعد الكولونيالية (colonial studies)، فإننا نأمل في أن تشكل أشغالُ هذا المؤتمر مناسبةً علمية بناءة تسمح بعقد حوار منتج بين تجربتين فكريتين رائدتين كونيا هما: تجربة إدوارد سعيد وتجربة عبد الكبير الخطيبي. كما نتطلع إلى أن يحفِّز ما استجد من مناهج قرائية وتأويلية على التعمق في التجربتين بما يبرز منزلتَهما داخل مجال الدراسات ما بعد الكولونيالية، وبما يكشف أيضا عن امتداداتهما المؤثِّرة في مجريات النقاش الدائر اليوم بين التأويليين والنقاد ما بعد الكولونياليين.
ولعل ما نهتدي به في اختيار تجربتين فكريتين متقاربتين في بعض الأسئلة والمشاغل، ومتفاوتتين في جملة من التصورات والمرجعيات أن ما أخذ يستأثر أكثر بالاهتمام في الموازنة بين المنجزات الفكرية أو الأدبية أو غيرها هو الالتفاتُ إلى الفروق والاختلافات التي تفصل بينها، وإيلاؤها عنايةً أكبر مقارنةً بما قد يجمعها من تشابهات أو يبدو بينها من تقاطعات. ذلك أن التشخيص الدقيق لمكامن الإضافة والتجديد التي تنطوي عليها هذه المنجزات لا يتأتى باختزالها إلى جهات الاشتراك والتآلف التي تجمع بينها، بل بتفحُّصِ سمات المغايرة والتباين التي تميّز بعضَها من بعض، واستقراءِ مواطنِ الإبداع والثراء التي تحتملها.
يُضاف إلى هذا أن الاهتمام بــ »الخاص والمتفرد »، على نحو ما صار يتنامى داخل طائفة من القراءات الفيلولوجية والإيبستيمولوجية الجديدة، بات يمثل حافزا آخر يسمح بردِّ الاعتبار إلى الفجوات والفواصل التي تُباين بين الإنتاجات الفكرية على الرغم من اشتراكِها في الموضوعات، أو توافقِها في الإشكالات. فقد أضحت هذه القراءات تتيح مراجعةَ تلكم التعميمات الواسعة التي أُسقطت على هذه الإنتاجات، وتعيد النظر في النماذج التصنيفية التجميعية أحيانا أو الهرمية (pyramidal) أحيانا أخرى التي طُبِّقت عليها دونما تقدير كافٍ لمنابعِ الاختلاف ومناحي التنوع والتعقيد (patchwork) التي تُباعِد بينها.
إن قراءات من هذا القبيل تدقق في الفواصل والفجوات الواردة بين تجارب فكرية متقاربة سيغدو معها كلُّ إقحامٍ لتجربتي الخطيبي وإدوارد سعيد في خانة تصنيفية واحدة، أو في إبدالٍ معرفي مشترك مجردَ إجراءٍ تعميمي فضفاض يفتقر إلى التمحيص، ويحجب وجوها شتى من الفروق والتمايزات التي تفصل بينهما. فكلٌّ منهما أسهم بطريقته (إلى جانب آخرين) في تأسيس الدراسات ما بعد الكولونيالية والارتقاءِ بها إلى منزلة اختصاص نقدي قائم بذاته، لكن أسلوب التفكير (thought style) الذي توسلا به في نقد النزعات الاستعمارية وتقويض مسلماتها ليس أسلوبا واحدا.
لقد اعتمد الخطيبي في بناء أسلوب تفكيره على مرجعيات متنوعة منها على الخصوص استيحاؤه العميق لفلسفات الاختلاف، وانفتاحه المتجدد على النقد بمفهومه التفكيكي، حيث يرد عنده التفكيك(déconstruction) في أحد استعمالاته مرادفا لـ « اللاّكولونيالية » (décolonisation) بما تعنيه من توجُّه جذري نحو نزعِ الترسبات الاستعمارية الثاوية في كلٍّ من فكر الذات وفكر الآخر على حد سواء. في حين استلهم إدوارد سعيد حفريات المعرفة، وطور في تعارض مع النقد التفكيكي نقدا فيلولوجيا وثقافيا استمده من التصورات الفيلولوجية المناهضة للنزعات المركزية بمختلِف تجلياتها العرقية أو الثقافية أو اللغوية (فيكو G. Vico، غوته W.V. Goethe، هومبولدت V. Humboldt، ليو سبيتزر L. Spitzer، إريك أورباخ E. Auerbach، وغيرهم). وهو النقد الذي استنار به في الإعلاء من قيمة « نزعة إنسانية » متفتحةٍ ومتبصِّرة تأبى في فكر الآخر بالتحديد ما يتأسس عليه من تراتبيات عنصرية، وما يتخفى فيه من مضمرات كولونيالية. ومن ثم تنتصب بين الاستراتيجيتين النقديتين مسافةٌ فارقة تستدعي استكشافَ المرجعيات المعرفية والتأويلية الناظمة لكلِّ واحدة منهما، وتستلزم بالموازاة مع ذلك تجليةَ مقتضيات أسلوبِ التفكير المقترِن بها.
في ضوء هذه الاعتبارات، يمكن للتعامل المثمر مع فكر الخطيبي وفكر إدوارد سعيد في سياقنا العربي أن يمتد إلى أبعد من إجراء مقارنات خارجية تنحصر فيما يُفترض بينهما من أوجهِ اتصالٍ أو انفصال. ذلك أننا أمام تجربتين فكريتين مركبتين تكمن أهميتُهما لا في دفاعهما عن أطروحة ناجزة يسهل القبضُ على مبادئها والتحكم في مقاصدها، بل تكمن في انفتاحِهما الحيوي على مرجعيات واجتهادات فكرية متعددة، وقابليتِهما الانخراطَ في مناظرة اجتهادات أخرى ومحاورتِها. وهو ما يلاحَظ اليوم على أشكال التلقي والتفاعل التي تحظى بها التجربتان معا في كثير من الأوساط البحثية العالمية. إذ يكفي أن نحيل على تلك الوشائج التي أخذ ينسجها المشتغلون بالتأويليات مع تجربة إدوارد سعيد النقدية والفيلولوجية من أجل إعادة النظر في العلاقة التي يقيمها بين الجماليات والسياسات. كما تكفي الإشارة إلى تلك القراءات التي تجد حاليا في فكر الخطيبي وفي استراتيجيته النقدية المضاعَفة مجالا رحبا لإخراج مفهومات اللغة والهوية والثقافة والهجنة وعلاقة الذات بالآخر من بنية كلِّ فكر انطوائي ينغلق على نفسه بعنف في ثنائيات متنافِية ومتجابِهة. بل ينبغي أن نستحضر أيضا الآفاقَ الواعدة التي فتحها التلاقحُ بين التأويليات الفلسفية والدراسات ما بعد الكولونيالية في انبثاق تأويليات ثقافية (cultural hermeneutics) تستضيء باجتهادات الخطيبي وإدوارد سعيد (وغيرهما بالطبع)، وتأخذ على عاتقها مقاومةَ مختلِف أنواع الاستعلاء القيمي والثقافي المفضية إلى إلغاء الآخر واستباحةِ غيريته. إذ في خضم ما تفرضه « ثقافة العولمة » من تنميط في كافة مناحي الحياة، اشتدت الحاجةُ إلى تأويليات نقدية وثقافية كفيلةٍ بمقاومة ذلك التنميط ونقدِ ما يفرزه من منظومات تقويمية موغلة في الأحادية والتطابق.

عبد اللطيف الوراريAuthor posts

Avatar for عبد اللطيف الوراري

هذا موقع شخصي للشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الواري، يتيح للقارئ العربي التعرّفَ على ملامح تجربته في الكتابة شعرًا ونقدًا، وما يسبطه من آراء متنوعة ومختلفة في قضايا أدبية ونقدية برؤية منهجية ولغة تمزج بين العمق والوضوح.

لا تعليق

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *