كان الغناء بأجراس دفقه العالي في طرف، وكان الموت في الطرف الغامض والمعتم من القصيدة. منذ امرئ القيس وطلليّات الشاعر الجاهلي، مروراً بالشعراء العُذْريّين والصعاليك، وأقطاب الفكر الشعري من أمثال ابن الرومي والمتنبي وأبي العلاء، وانتهاءً بشعراء الرومانسية والتموزيّين وخلّانهم من أولي الطول في شعرنا المعاصر، كان الموت، تيمةً ورؤيةً، يأخذ نمطٍ حياة من الأفكار والتأمُّلات التي تسري بينابيعها النضّاحة باليتم والفقدان والخسارة في القصيدة التي تُؤرّخ لنا، من ذات إلى ذات، فقـدانات عديدة، خاصة وعامة.

عبد اللطيف الوراري

1.

   نعتقد أنّ الشعر هو، في الأصل، ابن الفقدان ووريث الخسارات. لكن الموت لم يكن في تأمُّله، ولا في معايشته واختباره حدوده مُجرّد بكاء وعزاء وإيحاء بغيوم الحزن التي تُلبّد سماء الكائن وتُظلّله. فالموت يتحول لدى الشعراء، بخلفيّاتهم الصوفية والفلسفية والوجودية المتنوعة، إلى ذريعةٍ قُصْوى لأَنْسنة الحياة وقد افتقدت لكثيرٍ من ملامحها وقوى تجدُّدها إن في ذاتها أو في مدى انعكاسها على مرآة النّفْس. فمثلاً، يتحوّل البكاء عند الجاهلي في وقوفه على الأطلال، وشعوره الفاجع بالغياب، إلى استحثاث الأنا بواجب الانتصـار على المـوت ومقاومته بحضور اللحظة المنتشية التي تحقّق هبة امتلائها في إثبات الفـروسية ونشدان اللـذة الحسية. ويُجسّد عذاب الحبّ ومعاناته لدى العذريين مَوْتاً، بيد أنّه يعكس رغبة الأنا في الاتصال بمحبوبه، وبما أنّها لا تتحقّق فالحياة الداخلية لكينونة الأنا تتوهّج باستمرار.

    سوف يتحوّل نُشْدان الموت عند المعرّي إلى ضوء وشوق للخلاص من العمى وأسر المحابس بأكملها. وفي تجربة الصوفيّ يصير الموت عن طريق الانخطاف والفناء وتحييد الجسد ذريعةً يتحقق بها الالتحام بالمطلق:

تَبارَكتَ إِنَّ المَوتَ فَرْضٌ عَلى الفَتى    وَلَــوْ أَنَّهُ بَعضُ النُجومِ الَّتي تَسري
وَهَوَّنَ ما نَلْــقى مِنَ البُؤسِ أَنَّنا        بَنو سَفَرٍ أَو عــــابِرونَ عَلــى جِسْرِ
مَتّى أَلقَ مِن بَعدِ المَنيَّةِ أُسرَتي   أُخَـبِّرهُــــمُ أَنّــــــي خَلصتُ مِنَ الأَسْرِ

    كما يسعى الأنا الرومانسي إلى الارتفاع عن الأرضيّ وما يشدّها إليه من أجل تحقيق الوحدة بالكون. وعند التمّوزيين يغدو الموت تجربةً يعانيها الأنا الجمعي ويعبرها داخل الأساطير والأقنعة من أجل انبعاثها الحضاري. ومن ريف مصر حيث الموت ينثر شواهده، بعثت (كوليرا) نازك الملائكة حياةَ القصيدة الحديثة، ثُمّ أمست بالنسبة إلى حياتها الشخصية أليغوريا لضياع المعنى وتشظّي الذات التي تقاوم النزع الأخير على حوافّ الانهيار الوشيك.

2.

   يتردّد الموت، موضوعاً وفضاءً، في معظم ديوان محمود درويش، مصطبغاً بأنساق وتعابير وصيغ متنوّعة، ولم يكن يحتمل بعداً مألوفاً وعادياً، بل يفقد جزءاً من هويّته وشبحيّته داخل النسيج الشعري. بدا الموت استراتيجية، ذريعة لأنسنة الحياة والمطالبة بها عندما استعصى على الفلسطيني أن يعيشها ويغتنمها. سواءُ في بعده الجمعي الذي يُجسّد تضحيةً واستشهاداً؛ أو في بعده الفردي حيث يتمُّ تذويت الموت وتأمّله في سياق الرؤية الفردية المدعومة بتجربة المرض التي قرّبت الذات من مصيرها، وأتاحت لها أن تتأمل هذه اللحظة بكثيرٍ من الحكمة والتفلسف الخاص. فقد وجد الشاعر نفسه وجهاً لوجه أمام الموت يسخر منه، ويعرّيه، ويرثيه؛ ليكشف من خلالها قطيعةً ليس مع مفهوم الموت فحسب، بل مع مفاهيم نوعيّة تخصّ مسألة الكتابة برُمّتها، كما في عمله المشهود: “جداريّة”. يقول محمود درويش: “في هذه القصيدة كنت أكثر انتباهاً، أوّلاً للمسألة الوجودية وليس للمسألة الشعرية. كنت أعتقد أنني أكتب وصيّتي، وأن هذا آخر عمل شعري أكتبه في القصيدة مناطق ميتافيزيقية، وقد حاولت أن أضع فيها كل معرفتي وأدواتي الشعرية معاً، باعتبارها معلَّـقتي!”.

وهو يرفع جداريّته في وجه الموت، كان الشاعر يتوافق تماماً مع مقصديّته، إن رؤيةً أو إيقاعاً، في الإفصاح عن تشقُّقات كينونته وأناه الغنائيّ، بعد العلم الذي انتهى إليه في طوافه الطويل، وفي مغامرة روحه من رحلة البحث، ناشِداً ومُنْشداً. هكذا يأتي الحديث عن الموت مشتبكاً برموز الحياة التي تُنعش ذاكرة الكائن، وتفتح فضاءها على آفاق متباينة من المعرفة كسلاح مواجهة، إلى حدّ أمكننا فهم التجلّيات الواخزة من أشكال الموت ومعانيه التي اصطرعت في وعي الذات ومجهولها، بما في ذلك المعنى الأنطولوجي له:

يا مَوْتُ ! يا ظِلّي الذي، سيقودني
يا ثالث الاثنين، يا
لون التردّد في الزمرد والزبرجد
يا دم الطاووس، يا قنّاص قلب
الذئب، يا مرض الخيال، اجلِسْ
على الكرسيّ! ضَعْ أدوات صَيْدك
تحت نافذتي. وعلّقْ فوق باب
البيت
سلسلة المفاتيح الثقيلة! لا تُحدّقْ
يا قويُّ إلى شراييني لترصد نقطة
الضعف الأخيرة.

3.

   شخصيّاً، ظلّ الموت شاخصاً في متواليات شعري، إذ يُمثّل غياب الأب ابتداءً، والمعنى تالياً، الأبعاد القصوى له. وإذا قصرتُ الحديث على ديواني “ذاكرة ليوم آخر”، فإنّ القارئ يشعر بأنّه مغمورٌ بإيحاءات الموت في الزمن الذي يتمّ نقله بالتقسيط إلى أن يصير في صورة الكثافة التي تُؤذي في الصميم. وبما أنّ البوصلة توحي، على الأرجح، بضياع المعنى  والتاريخ، إلا أنّ التزمين سرعان ما يظهر بديلاً عن المعنى المبحوث عنه، إذ هو فاغرٌ فاه في كلّ جهة. لكن ما يهمُّ الذات ليس ما يدلُّ عليه الزمن، بل ما يتركه عليها من ندوب. بموازاةٍ مع سيرورة البحث عن المعنى وفيه، تتخفّف اللغة وتمثيلاتها الذهنية والرمزية من “قرينة البراءة”، وتعمل على مكبوت الأنا في صلته الغائمة بالآخر، وتحاول تقسيطه عبر شذراتٍ لا تقول أكثر مِمّا تُشير، ولا تُثبت أكثر مما تعكس. ليس المقصود بهذا المعنى، تبرئة ساحة الذات من معركة تعجُّ بالجثث، بل تضويئها بخلفية تتصادى مع تجارب التاريخ المنسي وينابيعها النضّاحة باليتم الفردي والإنساني؛ من أجل أن تبقى اللغة وسيطاً لا حجاباً. كما اللغة، يحاول الإيقاع أن يتقفّى أثر التجربة ويتجاوب معها، لذلك يُنوّع مصادر اشتغاله عبر اللغة وخارجها، إذ لا يهمُّ التوقيع إلا بمعنى الجَرْس الذي يلفت القرينة من غفلتها، ويبعث شتيت المعنى من سقطه المهدور، من موته:

في الإِنْشادِ يَأْتِينا تِباعاً
مِنْ غَمامٍ في السُّهوب انْتَثَرتْ
حَوْلَك ـ حَوْلي
صُوَرُ الْحَرْبِ
في عُشّ سُطورْ
مَعَ هَذا،
قَدْ سَمِعْناها مِن الْبَاب
تَلُمُّ العَزْفَ مِنْ بَرْدٍ قَديمٍ.
وَلِهذا السّبَب التّافِه أَيْضاً،
لا أَرى راحِلةً
في أَوّل الفَجْر،
وَلا ظِلّاً لِآتِينْ.
مِنْ هُناكَ
امْتَدّتِ الْأَيْدي إِلى البَرْق،
لِأَنّ الْعَزْفَ مَسْموعاً مِن الْأَصْداءِ
يَقْتَصُّ مِن الذِّكْرى
وَإِلّا ما بُكاءُ الْحُبّ
في الظّـلِّ؟

   في ضوء التجربة الإنسانية كما عبّر عنها الشعر وأوّلها بجراحه وندوبه الخاصة، نتلقّى الموت ونحياه لبناء حقيقتنا وهويّتنا وإلقاء الضوء على مناطق معتمة من وجودنا بشكل لا يعدم قيمته وهشاشته في آن.

عبد اللطيف الوراريAuthor posts

Avatar for عبد اللطيف الوراري

هذا موقع شخصي للشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الواري، يتيح للقارئ العربي التعرّفَ على ملامح تجربته في الكتابة شعرًا ونقدًا، وما يسبطه من آراء متنوعة ومختلفة في قضايا أدبية ونقدية برؤية منهجية ولغة تمزج بين العمق والوضوح.

لا تعليق

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *