منذ أن بدأ الإنسان يكتب وهو يطرح، بموازاة مع ما يصنعه، سؤال الغاية من فعل الكتابة ومُؤداه؛ ففي كل الثقافات الإنسانية، بما فيها الثقافة العربية والإسلامية، نجد نصوصا وشذرات متفرقة، تؤكد هذا الفعل بصيغة ما، أو تداريه في أوقات استبداد السلطان السياسي. وقد كانت الكتابة من أشرف الصنائع عند العرب، إذ امتدحوها ورغبوا فيها حتى قال معن بن زائدة:» إذا لم تكتب اليد فهي رِجْل». وكان شعراء العربية وأدباؤها قدماء ومحدثين، لم يخفوا وظيفة الكتابة عندهم، ومعها حيرتهم من فعلها المادي أصلا؛ كما هو حال الشاعر المصري صلاح عبد الصبور الذي يستعيد «شهوة» الشاعر الإنكليزي شيللي لإصلاح العالم، بقوله: «وهذه الشهوة هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلا منهم يرى النقص، فلا يحاول أن يخدع عنه نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه، ويجعل دأبه أن يبشر بها».
وهكذا- إلى آخره، ربما قلنا إن الأدب بوصفه خطابا جماليا مخصوصا، هو تجسيدٌ، بصورة وأخرى، لهذه الشهوة التي تتلامح أطيافها في كل الأزمنة، وقد تتسامى إلى حد التلاشي والعدم؛ حيث الصمت مآل الخيبة والانكسار في مصح الأحلام المجهضة، وقد كان لديه الكثير ليقوله.
عبد اللطيف الوراري
لماذا تكتبون؟
في عام 1919 أثارت مجلة «أدب» السيريالية، وكان ضمن مديري تحريرها أراغون وبريتون وسوبو، موضوع: «لماذا تكتبون؟»، وفي النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين مارس/آذار 1985، أعادت جريدة «ليبراسيون» (Libération) الفرنسية طرح السؤال نفسه على أربعمئة كاتب من جميع أنحاء العالم (نذكر فيليب روث، وخورخي لويس بورخيس، وبيتر هاندكه، وجورج سيمنون، وويليام بوروز، ومارغريت دوراس، وإيتالو كالفينو، خوسيه ساراماغو، ليوبولد سيدار سنغور..)، وجاءت ردودهم بين ما هو مستهلك وعبثي وغريب ومفاجئ صادم؛ فألبرتو مورافيا يعترف: «أكتب لأعرف لماذا أكتب»، كأنه يجيب على بوكوفسكي: «لو كنت أعلم، فلن أتمكن يقينا من ذلك»، وغونتر غراس: «لأنني لا أستطيع فعل غير ذلك»، وغابرييل غارسيا ماركيز: «حتى يحبني أصدقائي أكثر»، وراي برادبوري: «لأنني أحب الديناصورات»، وفرانسواز ساغان: «لأنني أحب هذا»، وأومبرتو إيكو: «لقد كبر أطفالي ولم أعد أعرف من سيخبرهم بالقصص»، ولورانس دوريل: «من أجل الانتباه لنفسي»، ولو كليزيو: «سأشرح لكم كل شيء».
وكان نحو أربعة عشر كاتبا من العالم العربي ضمن هؤلاء الكتاب الذين استطلعت الجريدة الفرنسية آراءهم، وعبّر كل واحد منهم أيضا بطريقة خاصة تختزل أسلوبه في الكتابة وموقفه من العالم؛ مثل نجيب محفوظ بقوله: «أكتب من أجل المُتعة، من أجل إمتاع القوى الغامضة، لا شيء خارجيا كان يدفعني إلى الكتابة»، ويوسف إدريس: «أكتب لأنني أحيا، وأستمر في الكتابة لأني أود أن أحيا بشكل أفضل»، والطيب صالح: «أحب التوكيد على أني لست كاتبا، ولم أكتب بالقدر الذي كان عليّ أن أفعل».
وقال محمود درويش خارج أسر الالتزام الأيديولوجي: «أكتب من أجل أن أفهم نفسي، وشعري شكوى غير موجهة إلى أي أحد. أيضا أكتب كي ألعب، ولكن هل بالإمكان مواصلة الشكوى واللعب في غياب القارئ؟ ليس الشعر سوى بحث عن أندلس ممكنة، فرحة الكلمات وهي تقبض على المستحيل. الكتابة إعادة بناء ما ينهار من حول الكاتب». وكتبت الجزائرية آسيا جبار: «أكتب تجنبا للموت، أكتب تفاديا للنسيان.. أكتب على أمل ضئيل لأترك أثرا، ظلا، خربشة في رمال متحركة، في غبار متناثر، في صحراء شاسعة». ولكن كاتبا طليعيا مثل توفيق الحكيم قال في لحظة يأس وتأفف: «بعد أن ألفت مئة كتاب تأكد لي أن ما فعلته هو عبث». إلى جانب آخرين: أدونيس، ورشيد بوجدرة، وفؤاد التكرلي، وعبد اللطيف اللعبي وغيرهم. في زمننا، نطرح السؤال مُجددا على كوكبة من أدباء العربية اليوم، لندرك ما الذي تغير بين أمس ملتهب وواعد بالآمال والثورة على الأوضاع السائدة، وحاضر غائم ومحبط تحطمت فيه الأيديولوجيات الكبرى وارتسمت خريطة جيوسياسية وثقافية جديدة تحت تأثير السوشيال ميديا أو ـ كما يقال – «نظام التفاهة» الذي تزحف إليه. وندرك من خلال هواجس المبدعين ورؤاهم مدى موقفهم من العالم الذي يحيط به، وهل ما زالت الكتابة لديهم التزاما ومشروعا للتغيير والتحريض على الفعل، أم استحالت إلى بحث عن الخلاص، وشغف وتعويذة في نهر الوجود؟
منصف الوهايبي (شاعر من تونس)
■ الكتابة متعة وواجب، مردها إلى سنوات طفولتي وأنا أكتشف الشعر، ثم تصبح جزءا من إيقاع الحياة، بل هي التي تضفي معنى عليها.
جودت فخر الدين (شاعر من لبنان)
■ كتابة الشعر بالنسبة إليّ هي دأبٌ يساعدني في تحسين شروط عيشي، وفي تلطيف مواجهتي للوقت. كتابة الشعر تمنحني لحظاتٍ أشعر بأنها من صنعي، وليست ضاغطة أو مفروضة عليّ. في لحظات الكتابة هذه تتعمق معرفتي بنفسي وبالعالم. كتابة الشعر تمنحني الثقة وتبعدني عن احتمالات المرض.
رجاء بكرية (كاتبة من فلسطين)
■ نكتب كي نسجل الحياة أولا، لا يهم أننا لسنا في مركزها، لأن السر غالبا يكمن في الهوامش. هواجسك تعبر من ذاتك إلى الآخر الذي لا يعرفه العالم، الآخر شبيهكَ في الهم، شعبكَ وقضيتك؛ فإن تكون فلسطينيا يختلف، أنت مطالب غالبا أن تكمل الحكاية، حكاية البلاد المغموسة قهرا، وأنت تتسع لتؤمم كينونة لن تشبه أحدا سواك..
محسن الرملي (روائي من العراق)
■ أكتب لأن ثمة أشياء أريد قولها ولن أرتاح إلا إذا قلتها، وأكتب لأنني أحاول فهم الوجود وإعطاء حياتي معنى، فأنا لا أجيد فعل شيء آخر، قد ينفع الآخرين، كإجادتي للكتابة التي كرست لها حياتي، وأصبحت هي هويتي الشخصية.. بحيث لا أدري ماذا ومَن كنت سأكون لو لم أكن كاتبا. بدأت الكتابة لأنال إعجاب أخي حسن مطلك، وأكتب الآن لنيل إعجاب آلاف الناس في أماكن ولغات شتى.
راوية يحياوي (شاعرة الجزائر)
■ لماذا تكتبين؟ مرّ الوعي بالكتابة عندي بمراحل، وكل مرحلة تمثل رؤيتي المتحولة: أكتب حتى أستعيد الذات المحلقة بين الواقعي المر والناقص، والتخييلي الممتع الذي يحاول الاكتمال، وكأني أفتح النافذة على المجهول، وأرمم شروخ الحياة ونقصها. وهي المرحلة الأولى: أكتب حتى لا أموت من النقص الفادح. المرحلة الثانية: أكتب بحثا عن الذات الممتلئة بدءا من أسئلة الوجود المؤرقة، إلى الأنا المنخرطة في رحلة البحث عن خلاصها والذات التي تحاول أن تفلت من موتها. وهي مرحلة القناعة بأن الكتابة تأجيل للموت. المرحلة الثالثة: أكتب حتى أسكن داخل اللغة، حتى استعيد الكلمة الأولى «كن» داخل يوتوبيا الوجود، وهنا تكون الكلمة صنو المقدس والقيمي، وتنشد الإنسان في جماله الأول؛ وهي المرحلة التي أحياها الآن.
ندى الحاج (شاعرة من لبنان)
■ كتابتي للشعر هي شهادتي للحياة والحب وشهقةُ فرح وولادة، كشْفٌ للجمال المنصهِر بالكون وعشقٌ للذوبان فيه، انسلاخٌ عن القشور والتصاقٌ بالجوهر، سعيٌ وطريق، تَخل وتعريةُ الذات في صحراء الوجود، ومياهٌ تتدفقُ بلا هوادة. هو الأنا الذائبة في الكل، والكل في الذرة الباحثة واللاهثة والمستسلمة ليقين الحب والرجاء. هو دهشةُ الطفل الذي يتوالدُ بالإيمان ويعبُر. الإصغاء إلى همسات الداخل وبلاغة الصمت. التوق نحو المطلق والاستسلام للحظة الخَلق. الانطلاق بحالة الوجد إلى حالة العرفان نحو الحب الأسمى.
علي نوير (شاعر من العراق)
■ لماذا أكتب؟ لأنني أرى في الكتابة الطريقة المناسبة للتعبير عن هواجسي وأفكاري وأسئلتي، ولأنني أرى في ما أكتبه رسالة ما لمن يهمه الأمر، الآن أو بعد حين، أسعى منذ البداية كي تكون أكثر تشذيبا وانضباطا وإحكاما، وأجمل وقعا، وأقرب الى فهم الآخر ومزاجه. ولأن الكتابة هي أجمل ما سنتركه على هذه الأرض، فهي الأجدر بالعناية والاهتمام.
فاطمة بن محمود (كاتبة من تونس)
■ أجد في ما أكتب رفضا شديدا لنفسي ولكل ما حولي. أكتب لأتخلص من الانفعالات السلبية، وحتى أحول ردود فعلي إلى مواقف من المجتمع والحياة والوجود؛ لذلك أكتب ضد الوعي السائد، ضد التخلف والتطرف الديني، ضد الفساد والظلم والديكتاتورية، ضد الإنسان المتحالف مع الشر. أن أكتب هو أن أقول لا، وهذا ما يجعل من الرفض فعلا إبداعيا مؤسسا ينخرط ضمن مشروع أدبي فاعل ومؤثر.
أمينة المريني (شاعرة من المغرب)
■ الكتابة تُؤسس ذات الشاعر بما يختاره هو، من حيوات أخرى تتجاوز المجهول والانمحاء والنسيان.. فالكتابة إذن استمرار في الآتي؛ إنها نافذة نحو الخلود حين يستحيل الوجود الآني.. وعندي أن الشعر انْعتاقٌ من القبح والأسر، وبحثٌ عن الجمال العلوي الذي يعيد الإنسان إلى إنسانيته الصافية وفطرته الأولى.
عمر شبانة (شاعر من فلسطين)
■ وجدتُ نفسي أكتبُ، فواصلتُ الكتابة. في البدء كانت الكتابة تعبيرا عن همٍّ، ثم بحثا عن الذات، وسؤالا وجوديا، ثم أصبحت حريقا لا بد منه، ولا خلاص من دونه. صارت هاجسا مُلحا بلا نهاية. ثم غدت متعة وفتنة، والكتابة سلاحٌ في وجه الزمن، حياة ثانية لمواجهة الفراغ والموت الحتمي. هي هذا كله جميعا.
الخضر شودار (شاعر من الجزائر)
■ لأني في هذا العالم الذي لا أعرفه، والذي يتغير باستمرار؛ وكي أجد عزاء في الحياة، أتخيله بأكثر من مخيلة واحدة؛ فالنهار أو الليل ليس واحدا، والفصول يخفي بعضها بعضا؛ الصيف ربيع آخر، لأن المدن ترحل والجمع دائما مفرد، لأني أحيا وأموت في آن؛ لأني وحيد في هذا العالم!
محمد بوجبيري (شاعر من المغرب)
■ أكتب لأنني أعتقد أن الشاعر يكتب نشيد العالم، ويغني سِفْر الروح وملحمة الوجود، ووسيلته الوحيدة هي اللغة، لذلك فهو خالقها وحارسها باستمرار.
فتحي عبد السميع (شاعر من مصر)
■ الكتابة عملية معقدة ولها جذورها التي تمتد في العقل الباطن، وهي عملية متحركة ومتفاعلة مع حياة الإنسان ووعيه، ولهذا تتعدد الإجابات، وتختلف باختلاف الأوقات، وتظل ناقصة. وبشكل عام، أكتب لأني مؤمن بالكتابة وجدواها في تحقق الذات الإنسانية على المستوى الفردي والجماعي، أكتب لأن الكتابة رسالة حياتي، ولأنها الرحم الذي أتخلق فيه وأولد منه كل يوم.
سليمان المعمري (قاص وروائي من سلطنة عمان)
■ أكتب لكي أستعيد نفسي وأرممها، وأتشاجر معها إن لزم الأمر، لأصنع واقعا آخر غير الذي أعيش، حتى إن كان خياليا على الورق أو شاشة اللابتوب، أكتب لأسمع دبيب النملة وأهدم بيت العنكبوت، لأضاعف الأسئلة التي تحيرني ساعيا جهدي ألا أجد عنها أي إجابة. أكتب لأنني لا أشعر بأنني كائن حر إلا عندما أكتب.
أحمد العمراوي (شاعر من المغرب)
■ أكتب لأُجمع أهوائي، وأكشِف عن أسرار الرماد في داخلي كي أتجدد كأفعى تسعى للنهل من ينابيعها المائية، مستظِلة بالشعر والشاعر. أكتب لتأجيل موتي، وتحقيق رغبة تقي من الاختناق وكفى.
سمير سحيمي (كاتب من تونس)
■ أن تكتب هو أن تثبتَ حركة ذاتك في الوجود في كل مرة بطريقة تسعى أن تجعلها مختلفة. أن تكتب هو أن تُطور علاقتك بالأشياء وبالمعنى. أن تكتب هو أن تعيد ترتيب علامات الذاكرة وتكسرَ كل قيد آسر. الكتابة استعادة ومتعة خلق ونسيج من الانتماء والأثر ورسم لوحة من كلمات وأشياء وأسماء للمستقبل.
محمد الشحات (شاعر من مصر)
■ أكتب لكي أحيا.. أكتب لأني أستنشق ما يدخلني من هواء من خلال الكتاب.. أكتب لأنني أعيش داخل أبيات شعري، وأسبح في بحوره، وأدرك بأنه لن يبقى مني إلا أشعار قلت فيها كل ما يدور في داخلي، وأن من يريد أن يعرفني يقرأ شعري. أكتب لكي أفسر علاقاتي الغامضة بالكون، وبالله وبالبشر. أكتب لأن في الكتابة حياتي التي أحب أن أحياها.
نمر سعدي (شاعر من فلسطين)
■ لا أعرف بالضبط لماذا أكتب.. ربما للفراغ، أو لتزجية هذه الحياة بحلوها ومرها، أو لأترك أثر فراشة أو نقطة ضوء في محيط ظلام هائل؟ أكتب لقارئ مجهول.. لقارئة ليست من هذا الزمن. منذ صيف 2008 وأنا أكتب بصعوبة بالغةٍ أحيانا، وهذا ما لمسته خلال كتابتي لمجموعتي الشعرية «كأني سواي». أقصد أنني أعجز عن لمس البرقِ الأخضَر الطالع من سديم الضباب الأبيض. أشعرُ دائما بأن كل قصيدة أتهيأُ لكتابتها هي الأولى لي.
عندما لا أجد ما أقولهُ أغلقُ فمي على زهرةِ صَوانٍ كبيرةٍ.. بيد أني لستُ جلجامش، أو أمارس طقوس المشي في الهواء الصلب كالفلاسفة المشائين وأنا أصب ماءَ قلبي على جمر الثرثرة المهتاجِ بفرح، أعيشُ قليلا في حضرة إغراء الصمت.. ليس صمتَ رامبو. أكملُ أحلامَ غالب هلسا غير المدونةِ أو أحيل بقايا قصيدة إلى شاعر صُعلوك غيري يحمل مأساته على كتفيهِ ويذرعُ شوارعَ مدنٍ على كواكب أخرى..
أريدُ أن أكتبَ كتابا وأرسله إلى مكتبة بعيدة في آخر الأرض.. لكي أرتاح من بعض شغفي.


لا تعليق