عبد اللطيف الوراري

بول كلي، الرسام ومُنظِّر الفن السويسري. عُدَّ عمله الذي نحته بروح الفنّان الغامرة، واحدًا من أهمّ التيّارات الفنية في زمنه، وأطرفها وأكثرها إثارةً للجدل الذي لم يهدأْ إلى اليوم. تأثّر في أول أعماله الدالّة بجماليات الرمزية والتعبيرية والفنّ الجديد بوصفها اتجاهاتٍ شكّلت أبرز الحساسيات الفنيّة وقتذاك.

حين أنهى بول كلي تكوينه بأكاديميّة ميونيخ في ورشة فرانز فون ستوك، سافر إلى إيطاليا ووقف، مسحورًا، على عمارة النهضة التي أبدعتها أنامل ميكيل أنجلو وأساتذة كواتراسنتو. وفي معرضٍ بميونيخ تعرّف على فان غوغ وسيزان، واقترب من مجموعة رسّامي بلو رايتر (الفارس الأزرق)، وعقد صداقات مع كاندينسكي، مارك، ماك وجافلينسكي. وفي باريس، يلتقي ديلوناي، ويكتشف أعمال روسو وبيكاسو وبراك، ثُمّ ينتهي من رسومات وضعها لرواية فولتير «كانديد». وبعد أن خالط مجموعة رسّامين كانوا منشغلين بمشكلة اللّوْن، شرع كلي في إحاطة نفسه بالفكر والممارسة الموسيقيين (الغناء، الكمان). ثُمّ سرعان ما صارت كتاباته تُغطّي مجالات شتى: الاستبطان والشعر حتى الحرب العالمية الأولى، النظرية والتدريس طوال سنوات «باوهاوس» بين 1921 و1930. وقد أعطى كلي دروسًا منتظمة حول الشَّكْل، وعرض أوّل نظريّةٍ نسقيّةٍ للوسائل التشكيلية المحضة التي قادت إلى بَلْورةٍ استثنائيّةٍ للإمكانات الإيحائيّة المتضمَّنة في الطرائق المُجرَّدة؛ فمثلًا يمكن أن نلمس معرفته الديناميكية بالشكل من خلال رسوماته التكعيبيّة.
ولأنّ كلي كان فنّانًا حديثًا له توجُّهات يساريّة، فقد حوصر إبان صعود النظام النازي، واتُّهــــم بـ«البولشفية الثقافية»، قبل أن يُعْزل من عمله، ويعود إلى مسقط رأسه القريب من بيرن. هنا قضى كلي سحابة فنّه الأخيرة، راجعًا به إلى الصورة المستلهمة من لغة المرضى العقليّين والوحوش والملائكة، مثلما رجع إلى هاجس الموت، وشكّل العبور الثيمة الأساسيّة في عمل هذا الرسام والشاعر الرائيّ.

الفن المرئي

بدت النظريّات التي طوّرها، خلال هذه الفترة، واضحة ًفي فنِّه الخاصّ حيث يبرز عدم الفصل بين النّظرية والمُمارسة، وبين البحث النَظري والنشاط الإبداعي في تصوُّره للعملية الإبداعية ككل. وهكذا شكّل استغلال الوسائل الفنية قطاعًا من فلسفة الإبداع التي طورها في نصوص «نظرية الفن الحديث» (1964).
إن الفنّ ، بالنسبة لكلي لا «يصبح مرئيًّا» إلّا عندما يصدر من أعماق الكائن ممسكًا بالقوانين الطبيعية التي ما تفتأ تكون هي نفسها قوانين العمل الذي يأخذ عنده شكل وسائل وغايات متجانس: «إن القوة الإبداعية -يقول كلي – تنفلت من كل تسمية، وتبقى سرًّا يعجز عنه الوصف في التحليل الأخير. لكن لا سرّ صعب المنال ليس بمقدوره أن يهزّنا في سرائرنا حتّى. إننا تحمّلنا بأنفسنا هذه القوّة حتى آخر ذرّة نخاع. ليس بإمكاننا أن نقول ما هي، غير أنّا يمكن أن نقترب من مصدرها بمقدار متغيّر. علينا أن نكشف هذه القوّة بكلّ الطرق، وأن نجلوها داخل وظائفها كلها كما تتجلّى فينا». ويضيف: «إنّ المراحل الأساسية لمجموع المسار الإبداعيّ هي كما يأتي: الحركة الموجودة فينا سابقًا، الحركة التي تفعل وتجترح وتتوجّه نحو العمل، قبل العبور إلى الآخرين ممن شاهد الحركة وهي طيّ العمل؛ ما قبل الإبداع ، ثُمّ الإبداع فإعادة الإبداع».

التعبيرية بوصفها عمل الذات

بهذا المعنى، يعتنق كلي التعبيرية باعتبارها عملًا للذّات، كما يرى هنري ميشونيك في كتابه «الحداثة الحداثة»؛ إنّها نقيض الانطباعية. فإذا كانت الانطباعية تعتمد على الإحساسات البصرية والانطباع الأول عن كل ما يقع عليه البصر، فإنّ التعبيرية تنبع من انفعال باطني؛ أي «تأثُّرك بحدث أو بشيء ما وانفعالك به». ولئن نظرنا الآن في تطور الفن الأوروبي منذ واقعية أواسط القرن التاسع عشر حتى ظهور هذه الاتجاهات الجديدة، نجد أنّه يشبه إلى حد ما تطورًا آخر حدث في ميدان العلم وهو الانتقال من مفهوم الكتلة أو المادة إلى مفهوم «الطاقة»، فالفنان لا يصف «أشياء»، وإنّما يعبر عن معان نفسية أو ذهنية.
وفي هذا الصدد يقول كلي: «بالنسبة للانطباعية، فهي اللحظة المستقبلة لتأثير الطبيعة، وبالنسبة للتعبيرية فهي تأتي لاحقًا، ومن ثمّة ليس من الممكن أحيانًا البرهنة على تجانسها لفظيًّا مع الأولى، بحيث يكون التأثير المتحصل واردًا. داخل التعبيرية، قد تمرُّ سنوات من التلقي والمردود المنتج على مقاطع من انطباعات مختلفة يمكن أن تعاد في تأليف جديد، أو كذلك من انطباعات قديمة تتفاعل بعد سنوات من كمونها عبر انطباعات جد متأخرة» (نظرية الفن الحديث، ص9).
ومن منطلق تعريف كلي، تكون التعبيرية بمثابة تعرية لمبدأ الفن؛ فهي ليست حركة، وإنّما اكتشاف الشُّمولي الذي يرتقي بالذات داخل الحداثة. من هنا، تسهم التعبيرية أساسًا في بناء الحداثة في الفن بوصفها صعودًا للذات، فتصير الذاتية المدفوع بها إلى درجتها القصوى الممكنة كمبدأ لبناء العمل.
يشرع كلي في صياغة هذا المبدأ، عام 1912، عندما يعارض الفنّ بالعلم، قائلًا: «يرجع الفن لعالم الاختلاف: إن أيّ شخصية حالما تضع يدها على وسائل تعبيرها، فإنّ لها حق الرأي، ووحدها الوسائل ملزمة بأن تتلافى النواقص وهي تبحث الأحسن منها داخل الاكتمالات المنتهية عوض أن تتخلّص منها. تلك حداثتها من قوّة الكلمات الفارغة؛ القوة التي لا تفيض إلا بما يوضع فيها ويتغير بشكل لا محدود.

كلي مسحورًا بضوء الشرق

في تونس التي رحل إليها عام 1914، يصيح كلي بملء فيه: «الرسم يتملّكني. أنا والرسم صرنا واحدًا. أنا رسّام»، بعد أن رأى سلطة اللون وقوّته على أعتاب القيروان. ووجد سيدي بوسعيد مثل كتلة حجريّة تنتصب فوقها أشكال بيضاء هي بيوت أهلها، وانبهر بالحمامات الساحليّة التي شبهها ب»لوحة توراتيّة». وفي تونس استسلم إلى الأزقّة الضيّقة والأسواق المزدحمة وافتتن بالضوء الساطع الذي ينفذ عميقًا في كل الأشياء ويجلوها في صور مختلفة، ملتهمًا بعينيه زخارف المدينة وأشكال قبابها وألوان أسوارها. بعد خروجه من متاهة تونس القديمة. كتب كلي في مذكراته: «رأسي مزدحم بالانطباعات السديمية عن هذه المدينة، حيث الإبداع والطبيعة وأنا. انغمستُ في العمل مباشرةً. أصوّر بالألوان المائية في الحي العربي، لشدّة ما يدهشني هذا الانسجام بين عمارة المدينة وعمارة اللوحة».
وهكذا، فقد أنتج بول كلي في غضون أسبوعين قضاها في تونس نحو خمس وثلاثين لوحة مائية وخمسة عشر رسمًا آخر، بل إن تونس ظلت مصدر إلهامه لفترة طويلة. ومن ثمّة، لا غرو في أنّ مرحلة تونس التي خلّدها كلي في مذكّراته وبعض الصور الفوتوغرافية، شكلت حدثًا مهمًّا ليس بالنسبة إلى فنّه الشخصي وحسب، بل في مسار الفن الحديث برمّته، ومن آثارها المشهودة عليه الرسم المائي التجريدي كما يبرز في لوحتيه «نظرة الى ميناء الحمامات» و«جامع الحمامات». ثُمّ بعد تونس، سوف تسحره مصر التي سوف تطبع عددًا من نجماته مثل «الطريق الرئيسية والطرق الثانوية».
من افتتانه بجمالية الخط العربي، إلى الكتابة المسمارية السومرية والأشكال التصويرية الهيروغليفيّة، واستلهامه الزرابي (السجاجيد) بعناصرها الزخرفيّة وفنون العمارة الإسلامية بوجهيها المغاربي والأندلسي، بدا بول كلي وكأنّه يحدث عملًا تثويريًّا في جوهر عمله الفني، متفتّحًا بحواسه ومخيّلته على رسم الألوان بشكل مجرد بدلًا من صرامة الأشكال الهندسية ومن منظور مشاهد الطبيعة الغارق في إسار الانطباعية الاستشراقية السائدة في عصره.
ولعلّ الدرس الأهم الذي استخلصه بول كلي من ضوء الشرق وسحره، واكتشفه بإيعاز من الفن العربي الإسلامي، هو أنّ «هدف الفنّ ليس رسم الأشياء، بل جعل غير المرئي مرئيًا». الفنّ الذي يمزج بين الحقيقة الموجودة والخيال المطلق داخل الفضاء التشكيلي، بين أسلوبه في الرسم والعناصر التشكيلية العرفانية المستوحاة من روح الشرق وعمارته.

عبد اللطيف الوراريAuthor posts

Avatar for عبد اللطيف الوراري

هذا موقع شخصي للشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الواري، يتيح للقارئ العربي التعرّفَ على ملامح تجربته في الكتابة شعرًا ونقدًا، وما يسبطه من آراء متنوعة ومختلفة في قضايا أدبية ونقدية برؤية منهجية ولغة تمزج بين العمق والوضوح.

لا تعليق

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *